التعليم العالمي والتعليم متباين الثقافات
التعليم العالمي
والتعليم متباين الثقافات
من الأمور ذات
الصلة بالتغيرات الحالية في التعليم تلك العمليات التي ينطوي عليها توحيد أوروبا
والعولمة؛ فهي ليست مجرد مفاهيم تعليمية تتأثر بالقضايا المتعلقة بالوحدة، ولكنها
أيضًا تتعلق بالخطابات التربوية المعاصرة، فضلًا عن تحويل التعامل العملي للتعليم.
مع أن مفهوم أوروبا أصبح حقيقة واقعة، إلا أن التعليم لم يعد مسألة
يجب التعامل معها بشكل حصري كل ثقافة أو دولة، وبدلا من ذلك، يجب أن تصبح مسؤولية
مشتركة بين الثقافات، وتتضمن دراسة متأنية للتشابهات والاختلافات بين مختلف الثقافات،
والأمم والمجموعات العرقية الأوروبية، وقد أدت زيادة التنقل داخل الاتحاد الأوروبي
إلى انتشار ظواهر العنف بين الشباب، مما أثار المسألة الحتمية المتعلقة بكيفية
التصدي للعنصرية، أو القومية أو العداء تجاه الأجانب.
وللإجابة عن هذه المسألة من المهم بشكل خاص تجنب اختزال العنف إلى
مظاهره الجسدية الواضحة الذي قد يكون أكثر صعوبة مما يبدو، حيث يوجه العنف دائما
نحو الآخر، وإحدى استراتيجيات الوقاية من العنف هي تكثيف تعامل الفرد مع الآخر
سواء من الخارج أو من الداخل، فمن أجل تحقيق وتعلم قبول بأن الآخر لا يمكن أبدا أن
يكون مفهوما تماما، فيتم تحقيق الكثير لتجنب العنف ضده. وهكذا، فإن الآخر هو محور
التعليم بين الثقافات والعالمية. وهذا يطرح مسألة كيفية تأثير العولمة على قضايا
التعليم، فهل من الممكن حاليًا التفكير في إطار تعليمي قابل للتطبيق عالميًا؟ وما
هي المشكلات التي قد تطرحها مثل هذه المحاولة؟ فهل من الممكن في هذا السياق تجنب
خطر اختزال الفرد إلى العالمية؟ واقعيا، هل للفرد الحق في مقاومة التبعية لما هو
عام؟ مما لا شك فيه أن هذه القضايا أصبحت ذات صلة أيضا في مجال المدارس والجامعات،
مما يؤدي إلى مزيد من التعاون الدولي وإلى أنماط جديدة من التعاون بين الثقافات،
حيث يمكن أن تتجذر معرفة أكبر وأشكال جديدة للعمل والسلوك.
عنف الشباب
لقد أدت زيادة
التنقل في سياق الأوربة والعولمة إلى اختلاط المجموعات العرقية المختلفة التي كثيرًا
ما تؤدي إلى مصاعب بالنسبة للأقليات، وأحيانا تؤدي إلى أعمال عنف تشمل الشباب بوجه
خاص، بيد أن هذا ليس السبب الوحيد لعنف الشباب.
ويحاول الفصل الآتي
تسليط الضوء على الأسباب المتعددة للعنف بين الشباب، ولكن يجب أولًا طرح مثالًا حيًا
يثير العديد من المشاعر، وهو مثال السكاكين مقابل الإهانات، إذ تعرض طالب ألماني
لهجوم عنيف من قبل شباب أتراك، وهو عنوان لقصة حدثت، ومن أكثر الحوادث وحشية التي
وقعت في السنوات الأخيرة، وقد تم نشر القصة لفترة وجيزة ولكن لم يتم تحليلها.
وتقول القصة أن مجموعة من الشباب الأتراك من غرب برلين هاجموا طالبًا ألمانيًا
يبلغ من العمر( 15) عاما في منطقة فريدريشاين (Friedrichshain) الشرقية، بينما كان في طريق عودته من المدرسة.
ولم يكن يعرف الجناة ضحيتهم، اذ كانوا في مهمة للانتقام لصديق اشتكى من التعرض
للتمييز في المدرسة، فالعدوهنا هو الألمان، وبالتالي لم يتمكنوا من الحصول على أؤلئك
الذين كانوا من المفترض أن يضربوا، وبدلا من ذلك أمسكت العصابة بأول قاصر ألماني
يمكنهم ان تطاله أيديهم. وضربوه بالمضارب التي حملوها على دراجاتهم، فاثنان منهم
ثبتوه على الأرض، بينما اعتدى الآخرون عليه، ثم هربوا تاركين ضحيتهم على الأرض،
واستغرقت عملية الطوارئ ثمان ساعات لإنقاذ حياته، ولكن الطالب لم يتعافى تماما.
وكثيرا ما يتم
سماع مثل هذه الحالات، حيث يتم التبليغ عنها في الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها
الآن تحدث بوتيرة متزايدة في المدن متعددة الثقافات، وسريعة النمو في أوروبا؛ فمنذ
إعادة توحيد ألمانيا، ازداد أعداد الأفراد الذين يكرهون الأجانب، وازدادت الجرائم
اليمينية المتطرفة، ولا سيما في الولايات الاتحادية الجديدة نيو لاندر(
Neue Länder)، ووفقًا لآخر الإحصاءات، كان من بين الجرائم التي سُجلت في عام (1997)،
والبالغ عددها (11720) جريمة، (790 ) جريمة منها جرائم عنف، ومنها (462) جريمة مسجلة
بوصفها أعمال عنف تتعلق بمعاداة الأجانب.
وعلى مدى
السنوات القليلة الماضية في ألمانيا، أصبح الأفراد على وعي خاص بثلاثة أنواع من
العنف وهي: أ) العنف الأسري، ب) العنف ضد الأجانب؛ (ج) عنف الشباب، وقد أدت
المناقشة المكثفة لهذه المواضيع (العنف ضد النساء والأطفال، والعنف المتطرف
اليميني ضد الأجانب)، وتزايد حجم العنف الذي يرتكبه الشباب إلى تحويل العنف إلى
موضوع جديد للنقاش العام، فضلًا عن تحويله الى بحث العلمي، ومن خلال تول اهتمامات السلام والحركات البيئية في السبعينيات والثمانينات، أدت
مناقشات جديدة للعنف إلى نظريات وتفسيرات جديدة، ومن الأمثلة على ذلك الطريقة التي
شرح بها الأفراد زيادة كراهية الأجانب التي أصبحت واضحة بشكل خاص بعد توحيد
ألمانيا، وخاصة في مواقف وسلوك الشباب وخصوصًا في الولايات الاتحادية الجديدة.
وكثيرا ما يتم
استخلاص الخطوط النظرية التالية لشرح أعمال العنف العنصرية التي ترتكب ضد الأجانب:
- الأسباب الاجتماعية والاقتصادية: عبر ارتفاع معدلات البطالة، وما
يترتب على ذلك من اخراج الشباب من طبقتهم، والمشكلات المتعلقة بالانتقال إلى مجتمع
رأسمالي موجه نحو السوق، وعمليات التحديث (غير الناجحة جزئيا) اللازمة، والعيوب
المتعلقة بالنظام الجديد، خاصةً عدم عدالة التوزيع.
- الأسباب السياسية: مع حل النظام الاشتراكي، وإعادة التنظيم الجذري
المطلوب، ظهرت تحديات جديدة لم يتمكن العديد من الشباب من مواجهتها، وبدلًا من أن
يتم التعامل مع هذه التحديات الجديدة بنجاح، فإن التدمير وعدم الاستقرار غالبًا ما
يكونان نتيجة لذلك.
- الأسباب الاجتماعية - النفسية: فالتنشئة الاجتماعية كانت ناقصة،
ونظرًا لتغير ظروف المجتمع، فإن العديد من الشباب أصبحوا مشوشين، ويحتاجون إلى
التوجيه، ولكن هذا غير متوفر، ففي كثير من الحالات، تفككت مجموعات الأقران، واختفت
نماذج البحث، وكل ما تبقى هو المرار، والفراغ العاطفي، وأزمة الهوية بالنسبة
للكثيرين.
- الأسباب الثقافية الاجتماعية: لقد عانى العديد من الشباب من تفكك
القيم التي كانوا على دراية بها، ورافق هذه القيم الجديدة التغيرات الاجتماعية
الجذرية الجارية، ومع ذلك، فإن العديد من هذه القيم الغربية وضعت ضغوطا على الفرد،
بطريقة لا يمكن استخدامها، ولا يمكن التعامل معها، وهذا قد يؤدي إلى أزمة في
المعنى، ويؤدي إلى سلوك سيء خطير.
- الأسباب التعليمية: يفشل بعض الشباب في التغلب على التحديات المغيرة
لمرحلة المراهقة، وفي كثير من الأحيان، يمكن أن يؤدي فقدان الأشكال السابقة للسلطة
إلى عدم اليقين المعياري، والافتقار إلى التوقعات؛ فصعوبات التعلم والاستبعاد
الاجتماعي ستكون هي العواقب.
يبدو أن هذا
الإطار النظري يفسر أنه بعد سقوط الجدار، تصاعدت أعمال العنف لليمين المتطرف قبل
كل شيء في ألمانيا الشرقية، وخلافًا لألمانيا الغربية، يمكن تطبيق الحاجة إلى
التحديث على الجمهورية الديمقراطية الألمانية السابقة، وليس فقط على أفراد معينين
أو فئات اجتماعية معزولة منتشرة في جميع أنحاء البلد، وعلاوةً على ذلك، يبدو أنه
من الناحية الهيكلية وللوهلة الأولى أنها قد تكون مشكلة تتعلق بالشباب، خاصةً أنها
قبل كل شيء تتعلق بالشباب الذين يشاركون في أعمال العنف، وهذا ما يفسر أن الشباب
أكثر تأثرًا بالبطالة، وفقدان الآفاق، والخوف من المستقبل، ويؤدي تغيير النظام
الذي يواجهه الشباب في شرق
المانيا يؤدي إلى زعزعة الاستقرار العام وتدمير النسيج الاجتماعي برمته، وتفكك
القيم وإحداث أزمة في المعنى.
ومع ذلك، فإن
التفسير الوارد أعلاه يجب أن يكون موضع تساؤل، فلماذا على سبيل المثال يجب أن تؤدي
الفردية نتيجة التحديث بالضرورة إلى حل الروابط الأسرية، والتفكك الاجتماعي؟
ولماذا يجب أن يثير ذلك العداء تجاه الأجانب أو حتى العنف ضدهم؟ وغالبًا ما يفترض
أن التكامل الاجتماعي والمعياري يُحّد من الآثار الجانبية غير المرغوب فيها
للفردية. هل هذا صحيح حقًا؟ لا بد التشكيك بالفعل في الصلات الجاهزة المقترحة في
برنامج التفسيرات المذكور أعلاه، ومن المؤكد أن "الفردية غير الناجحة"
لا تكفي لشرح العداء والعنف ضد الأجانب أكثر من الجهود المبذولة لإدماج الأفراد
اجتماعيًا وأخلاقيًا (أو فكرتها) التي تنجح في القضاء على هذا الفشل.
وتؤكد التحقيقات
التجريبية أسباب الشك في صحة نظريات التحديث، وبالفعل فأن أكثر من (80٪) من مرتكبي
أعمال العنف هم دون سن الخامسة والعشرين، وتشير الأدلة إلى أن (35٪) منهم أصغر من
السابعة عشرة، ولكن منذ أحداث روستوك( (Rostock، شوهد البالغون يصفقون للجرائم العنصرية التي
يرتكبها الشباب، وأصبح من الواضح أن العداء تجاه الأجانب ليس مشكلة خاصة بالشباب، فهي
ليست كذلك، منذ أيام مولن وسولينغن، وهل
من المعقول افتراض أن المشكلة هي بالعادة مشكلة تتعلق بألمانيا الشرقية؟ هنالك
بالطبع أسباب تجعل مشاعر معينة من الاستبعاد والميل نحو العنف أكثر وضوحًا في
الولايات الاتحادية الجديدة للشرق من غيرها من الولايات.
وقد أسفرت
الدراسات التجريبية ذات الصلة في بحوث الشباب عن سلسلة من النتائج الوصفية التي
تشير إلى أن )أ)
العداء تجاه الأجانب أكثر شيوعًا بين الشباب من ذوي المستويات التعليمية المنخفضة،
وبين الأسر ذات المستويات التعليمية المنخفضة؛ (ب) أن الإناث أقل كراهية للأجانب
من الذكور؛ ج) من السهل العثور على مواقف عنصرية بين الشباب في الشرق أكثر من
الغرب. إلى الآن، لم يتم إثبات النظرية القائلة بأن الاتجاهات المتطرفة اليمينية
ترتبط بطريقة، أو بأخرى بالبطالة أو الأوضاع الاجتماعية السيئة، أو انعدام الآفاق،
الإ أن الواقع يشير إلى أدلة على عكس ذلك، فالشباب يتكاملون بشكل جيد في عالم
العمل، ويحملون آراء أكثر راديكالية، ويسارعون إلى اللجوء إلى العنف أكثر من غيرهم،
إذ لا يمكن التحقق من الافتراض النظري بأن الظروف المعيشية الصعبة تبرر الميل إلى
اتخاذ آراء قومية استبدادية، كما لا يمكن على الإطلاق أن تؤكد الدراسات التجريبية
بأن الشباب الألمان الشرقي أكثر عرضةً لإظهار الخصائص الاستبدادية.
الإ أن هذه
النتائج التجريبية تترك العديد من الأسئلة مفتوحة، ولا يمكن أخذها على نحو غير
نقدي، والأهم من ذلك، أن التحقيقات لا ترتبط بما يكفي مع الافتراضات النظرية
الأصلية؛ فمن حيث المنهجية، فهي أيضًا غير كافية، ولا يزال من غير الواضح لماذا
على الأغلب توجه الكراهية والعنف ضد الأجانب عندما يكون التهديد الاجتماعي أكبر
بكثير من جانب الألمان الذين يعيشون في ظروف اجتماعية مماثلة؟ وهذا ما يفسر بشكل
غير كاف، وفي بعض الأحيان يقدم الأجانب كسبب مبرر للعنف، وأحيانا يكونون مواضيع
اعتباطية للخوف الحاصل والملل، إلا أنهم قد يظهرون مرة أخرى كضحايا ذوي حظ عاثر
لأولئك الذين تعرضوا للعنف الممنهج، وبدلًا من ذلك، يصنع الغرباء والأجانب كبش
فداء ومسؤولين عن عنف المجتمع الذي هم أيضًا ضحاياه.
ولعل اللاوعي
السياسي الجماعي يقود بشكل تلقائي إلى عدوان مشتت، وإلى غياب الوعي السياسي تجاه
موضوع "الضحية المثالية".
إن البحث
التجريبي المعني غير قادر على تفسير جذور العدوان والعنف، وتوخيًا للوضوح، وبسبب
بعض المتطلبات المنهجية، فإنه يقلل كثيرًا من تعقيد المشكلة، والواقع أن ربط العنف
بين فرد ما وانعدام الاعتراف به، أو انعدام الأمن العاطفي، أو الإحباط، أو الخوف،
أو الحاجة إلى التوجه، هو افراط في تبسيط المسألة، وبالإضافة إلى ذلك، يجب على الفرد
اعتبار العنف ضد الأجانب مشكلة ألمانية حصرًا؛ لأنه موجود في مجموعات مختلفة، وفي
بلدان أوروبية أخرى أيضًا.
ومن أجل تحقيق
العدالة في التعقيدات الحاصلة من ظواهر العنف، يجب أن تتضمن الدراسات والتفسيرات
المذكورة آنفًا أبعادًا أنثروبولوجية مركزية، والتي قد لا تكون ذات صلة مباشرة
بالعنف العنصري، ولكنها تقدم منظورًا آخر بشأن هذه المسألة، وبالتالي تسلط الضوء
من جديد على التفاهمات الحالية، إذ يجب النظر إلى ظواهر العنف ضمن السياقات
الثقافية والتاريخية المناسبة، فهي تحدد بالضبط ما يعتبره المجتمع عنيفًا، كما
انها مسألة خلافية حول إذا ما كان يجب على الفرد أن يفترض - كما يفعل نوربرت إلياس
(Norbert Elias) - أن العمليات الحضارية تؤدي بالضرورة إلى تباعد عاطفي وبالتالي
تقود تدريجيًا إلى مجتمعات أكثر عنفًا، وقد خالف الخبير الإثنولوجي بيتر دور(
(Peter Dürr هذا الأمر.
ويخضع العنف
بوصفه ظاهرة ثقافية وتاريخية للتغيير الثقافي والتاريخي، وفي الوقت نفسه، فإن ما
نعده عنفًا يعتمد على العلاقة بين الخيال وبين الظواهر الثقافية والتاريخية ذات
الصلة، وهكذا، فإن تعريف العنف يخضع لنوعين من الحتمية التاريخية الثقافية.
وتعد أعمال
العنف ظاهرة بالغة التعقيد، فكل من مرتكبيها وكذلك مراقبيها يستثمرون كل فعل
بمشاعر وأحاسيس مختلفة، وتتواجد هذه الآثار المحاكية القوية في العمل، ولكل عمل من
أعمال العنف، ولا يمكن للفرد مقاومة كونه مفتونًا. ونتيجةً لذلك، يمكن للفرد اتباع
حجة أفلاطونية في الاعتقاد بأنه ينبغي عليه
حظر المظاهر العامة للعنف، وفي تقاليد أرسطو، يرى أنه يجب على الفرد أن تشجيع
المناقشات حول العنف من أجل السماح للأفراد بمواجهة هذه القضية بفاعلية، ولا يزال
السؤال مفتوحًا، سواءً من وجهة نظر الفرد أو المجتمع ككل، فأي هذه المواقف تجاه
العنف تكون أكثر فاعلية؟
وتميل البحوث في
مجال العلوم الاجتماعية إلى الحد من تعقيد ظاهرة العنف، إذ يعرض هـذا الموضوع كما
لو كان له تعريفًا واضحًا، وأن الفرد لا يعرف الأصول الدقيقة للعنف فحسب، بل أيضًا
يعرف كيف أن العلم يستطيع فهم الظواهر، وأن يتحكم فيها.
وكثيرَا ما
تتجاهل المناقشات حقيقة أن العديد من أعمال العنف تحدث - إذا جاز التعبير- دون سبب،
إذ تنشأ في حالات معينة، وغالبًا بشكل غير متوقع وتلقائيًا بحيث لا يمكن السيطرة
عليها، وفي بعض الأحيان، يبدو أن العنف كان يمكن تجنبه بسهولة، إلا أن الجاني ولا
الضحية يفهمان حقًا ما حدث، فغالبًا ما يبدو وكأنه " فرد غريب" هو من
ارتكب الفعل.
وتشير هذه
الاعتبارات إلى وجهات نظر جديدة بشأن مسألة ما يسمى بالعنف بين الشباب ، وهي
منظورات تزعزع أسس بعض الافتراضات العلمية الاجتماعية، وكذلك تزعزع أي أمل متفائل
في إمكانية السيطرة على العنف.
ولقد سبق وأن
أشار إليه كل من شوبنهاور( (Schopenhauer، ونيتشه ((Nietzsche وفرويد (Freud)، بأن العنف متأصل في أي محيط اجتماعي إنساني؛
فالثقافة تتعلق بالتخلي عن الدوافع والرغبات، وترتبط ارتباطًا عميقًا بالتقشف والانضباط، والعنف ضد الآخرين، وضد النفس.
وقد تكون القدرة
على العنف هي التي مكنت الجنس البشري من البقاء على قيد الحياة، يتحدث علماء
الأحياء عن "مصلحة ذاتية جينية" معينة في السلوك البشري، ويعتبرون أن
تقييمها الأخلاقي مسألة قيم ثقافية، وفي الحالات القصوى، يمكن أن يؤدي عمل من
أعمال العنف المحكوم عليها سلبًا، إلى تأمين بقاء هذا النوع على المدى المتوسط أو
الطويل، ومن ناحية أخرى، يمكن أن تؤدي الأفعال الإيثارية الفردية إلى نوع من الأنانية
الجينية أو إلى نوع محدد، فوقفًا لوجهة النظر هذه، لا يمكن تمييز العنف كقوة مدمرة
عن ذلك العنف كقوة بناءة؛ فالتحليل المتصل بالسياق هو الذي يوفر تقييمًا أكثر
تمايزًا للأشكال المختلفة.
وبالمثل، ومن
منظور منهجي، هنالك دائمًا قوى
تهدد وجود النظام، ويمكن لها أن تظهر بشكل غير متوقع، في شكل سلوك مدهش. ومن أجل
منع هذه القوات من تدمير النظام برمته، يتفاعل النظام عن طريق تكثيف آليات
المراقبة، بيد أن زيادة الجهود الرامية لتجنب "المفاجآت السيئة" تؤدي
بدورها إلى مضاعفة القوى المهددة، وهكذا، فكلما كانت الضوابط أقوى لحماية النظام،
كلما تعاظمت القوى التي تهدف إلى التغيير وإعادة التشكيل، ومن أجل زيادة فهم قضايا
العنف، وترتيب النظم، يجب النظر الى عواقب هذه الحالة المتناقضة.
ولا يوجد مخلوق
أو نظام حي "لا أناني"، بل هنالك أنانية معينة - تتعلق بغريزة الحفاظ
على الذات - التي تنتج العنف والعنف المُضاد، ومن اجل تجنب اختزال مفهوم العنف إلى
تجلياته المرئية، لا بد للفرد من أن يراعي ويندرج في جوانب الإيجابية
"العنيفة" للحياة والترتيب المنظم، وفي العلاقة بين الجنسين والأجيال،
فضلًا عن العلاقات الإنسانية بالطبيعة والنفس، حينها يأخذ العنف تعقيدًا
أنثروبولوجيًا جديدًا. وهذا الحقل المفاهيمي الموسع بالتأكيد يحجب إلى حد ما مفهوم
العنف (بالمقارنة مع الوقت الذي يقتصر فيه على مظاهره الصريحة)، فمن الضروري، تصوير
شكلًا من أشكال العنف كتلك الأشكال التي وُصفت بأنها العنف الهيكلي، والعنف المؤسس، أو العنف الرمزي.
وقد عرف نيتشه العنف
بأنه:"إرادة السلطة وعرفه فرويد بأنه "قوة التدمير"، و"حملة
الموت"، وعلى الرغم من أن العنف يميل إلى الحدوث عندما تكون ظروف الحياة
سيئة، فإن العنف أيضًا يختبئ تحت أشكال أكثر قبولًا من الناحية الاجتماعية كالطموح
أو القدرة على التنافس أو المجاراة، والعنف صريح في الحالات التي تتعرض فيها الجثث
البشرية لأذى أو تشويه أو تدمير، ويحدث العنف بشكل اعتباطي، عن طريق الصدفة ولا
يمكن التنبؤ به، ويعطل العنف العقل وسيطرة الفرد على العمل في أوقات الحرب، وفي
الجماهير وفي الأحلام، فهو يمتزج مع رغبة إنسانية معينة في تحمل المخاطر، وجذب الفرد
نحو المجهول والمفاجئ، وبشكل مغناطيسي جذاب ومقيت، فإن العنف يرعب، ويرهب، ويسحر، ويعد
العنف أحد شروط الوجود الإنساني والتنشئة الاجتماعية، وبالتالي لا يمكن التغاضي
عنه أو تجنبه.
وقد يبدو أن توسيع
نطاق مفهوم العنف بهذه الطريقة يعد سببًا في سحق آمال الفرد في التغلب على المشكلة
بشكل تام، ولكن هذا لا يعني أنه لا يجب اتخاذ الإجراءات السياسية والاجتماعية
المناسبة ضد العنف، ولكن اعتبار العنف مجرد "ظاهرة اجتماعية غير مرغوبة"،
وبناء قاعدة لمواجهة أي استراتيجية مضادة على مفهوم أقل ومبسط للمشكلة غير مرضٍ
تمامًا، فالفهم الشامل للعنف ضروري من أجل التعامل مع الإمكانات العنيفة الكامنة
في جميع الفئات الاجتماعية والأفراد، ومن الواضح أنه في ضوء التهديد الحالي الذي
تشكله معاداة الأجانب والعنف العنصري، فإن الطلب على العمل السياسي والاجتماعي
السريع أمرًا مفهومًا وضروريًا، فهو يوفر السياسة مع شرعية ملحة بشكل عاجل، ويطور
نماذج للسلوك المشترك اجتماعيًا. ومع ذلك، ما زال الفرد لا نستطيع حتى الآن معرفة
مدى فاعلية التدخلات الاجتماعية والتعليمية في مكافحة العداء تجاه الأجانب
والعنصرية والعنف، وعلى أي حال، فإن النجاح سيعتمد على كيفية فهم العنف بشكل ينصف
تعقيد هذه الظاهرة.
ومنطقيًا،لا يمكن فهم كيف أن بعض الأفراد الأبرياء هم ضحايا العنف، وذلك
فقط لمجرد مظهرهم الاجنبي أو أصولهم إلاثنية، أو الدينية المختلفة، فالعقل قد يجفل،
إذ تؤدي محاولات تفسير أعمال العنف هذه من خلال النظر في قصص حياة مرتكبيها إلى
إلقاء بعض الضوء على الدوافع، ولكنها لا ترقى إلى تفسير الظواهر بشكل حقيقي، ومن
الحقائق الملحوظة في حالة عنف الشباب أن الجناة على الأغلب لا يدركون تمامًا نتائج
أعمالهم؛ فالسلوك الوحشي غير المنضبط هو من النوع الذي ينطوي عليه هذا العنف، الذي
نادرًا ما يتبعه أي نوع من التعاطف مع الضحايا، وبدلًا من ذلك، يبدو أن الجناة غير
قادرين على استشعار الضرر والألم اللذين تسببوا بها بشكل غير مفهوم وغير معقول، وبشكل
مخدر مخيف.
ولقد أظهر التاريخ مدى قدرة الأفراد على القيام بأعمال عنف لا تصدق، دون
الشعور بأدنى قدر من التعاطف مع ضحاياهم، فعندما تعلق الطقوس وآثار التقييد
المكبوحة، يبرز نوع من الحالات الاستثنائية الطارئة، وعندما تكون أشكال العنف
المتطرفة ممكنة بشكل مفاجئ، مثل تصاعد المجازر، التي لا هدف لها إلا تدمير وذبح
الضحايا الذين لا حول لهم ولا قوة، وحمامات الدم للفتوحات الاستعمارية، وفظائع
الحرب والحرب الأهلية، والمذابح البشرية في الإبادة الجماعية؛ فالمذابح هي أعمال
وحشية جماعية، بحيث يسمح فيها للجناة بإطلاق جحيمهم؛ فلا توجد حدود، ولا قيود، ولا
توجد قدرة على المقاومة مرة أخرى، فالفائض يحفز الجاني، وتجعله يفقد نفسه في
الجنون الثمل، ولا يوجد جسر ممكن للضحية الميؤوس منها، ويترك العنف الجماعي ضحاياه
المحظوظين بلا وسيلة للهرب، وهذا النوع من التدمير غير المتقطع هو العنف نفسه الذي
يصبح الهدف الوحيد والمعنى الوحيد، وكان هنالك شيء من هذا النوع من العنف واضحًا
في حالة الصبي الذي تم الاعتداء عليه بادئ ذي بدء.
وهناك العديد من حالات العنف الجماعي هذه، والتي عادة تعد نوعًا من الأزمة
الاجتماعية (المتأصلة في البطالة، ومشكلات الهوية الاجتماعية والثقافية، وانعدام
الأفق... إلخ) من توفر قاعدة لفرد يختلف
بطريقة ما لاختياره ككبش فداء، ويتحمل المسؤولية عن كل ما هو خاطئ.
ولا يمكن فهم الشيء المشترك بين المجموعة، وهذا الفرد، وبدلا من ذلك، يبرر
اختلاف كبش الفداء ويتم استبعاده، ويتحمل اللوم ويصبح الضحية، ويتحول إلى شيء تفرغ
فيه احباطها وغضبها ضده بشكل قاسٍ، وعنيف دون الشعور بالذنب، وباعتبار أن كبش الفداء
يعد مسؤولًا عن الأزمة الاجتماعية، تشرع للمجموعة معاملة هذا الفرد معاملة المسيئة،
وعلاوةً على ذلك، يستطيع الفرد في مجموعة ما أن ينأى بنفسه عن مسؤوليته الخاصة، ولا
تحدث أعمال العنف من تلقاء نفسها، فهي أعمال
الغوغائيين، ويتم تعليق الفروق بين أفراد كل مجموعة في العملية المحاكية، كما أن
الموضوع الجماعي مجهول الهوية هو الذي ينفذ العنف، وبما أن هذا "الموضوع
الجماعي" هو الفرد الذي يؤدي الفعل - وليس الفرد بصفته هذه - فإن الأفراد
المعنيين غالبًا ليس لديهم أدنى شعور بالخطأ، وهذه الطريقة في إحالة مشكلات الحياة
والعنف إلى كبش الفداء، ثم تفويض أفعال الفرد إلى موضوع جماعي هي آليات تسمح بحدوث
أعمال عنف من هذا القبيل، ولكنها تعتمد من أجل أن تكون فعالة على الأفراد المعنيين
من دون معرفة ما يرمون إليه.
ويحصل كثير من الأفراد
على التشويق عبر رؤية الآخرين يعذبون ويضربون، كالمصارع يحارب في ساحات
الإمبراطورية الرومانية، أو طقوس الأزتك للتضحية بالسجناء، أو الطغاة الهنود الذين
أعدموا الأفراد من أجل بقاءهم، وهذه جميعها أمثلة على الكيفية التي يمكن فيها
الحصول على متعة معينة من مشاهدة معاناة الآخرين وموتهم، إذا لم تكن هذه هي الحال،
فإن أفلام مثل "نهاية العالم الآن(Apocalypse Now) أو "الحديقة الجوراسية Jurassic Park))" لن تكون ناجحة جدًا، وبعيدًا عن شعور
الرعب الذي يشعر به الأفراد في مواجهة أعمال العنف التعسفية والقاتمة، فإن هنالك
شيء يجذبهم رغمًا عن إرادتهم، كما أن الافتتان الناجم عن العنف والحروب والكوارث،
هو في الوقت نفسه اجتذاب واشمئزاز، ولكن ما هو الشيء الآخاذ بالعنف؟ هل هو على ما
يبدو استعراض للسلطة المطلقة على جسم وحياة فرد آخر؟ هل هذا العنف يجعل الفرد ينسى
أنه ضعيف وفانٍ؟
هل هي الرغبة في
الحصول على سلطة لتدمير حياة فرد آخر، بدلًا من أن يدمر نفسه؟ ولكي يكون العنف
مفهومًا، يجب أن تكون له سلطة على مرتكبي العنف أو مشاهديه؛ فالعنف بحد ذاته يأسر
ويشكر، ويبث الرعب والمسرات، حيث تتطور الإثارة الجماعية، وتتحول أعمال العنف إلى
نوع من الأعمال التي لا يمكن ايقافها، بحيث يصبح الخوف نفسه إثارة، وعندما يحدث
هذا، فليس هناك ثمة حماية، وفي بعض الأحيان، يتم تعليق الحدود بين الجناة
والمتفرجين، ويصبح المتفرجون هم الفاعلين، ويعد هؤلاء المتشددون مثالًا مهمًا على
ذلك، وعند قراءة الدراسات حول العنف، يتم ضرب واحد من خلال ما يأتي: تركز معظم
التحقيقات بشكل وثيق على مرتكب العنف أكثر من الضحية.
وتُثار مسألة
دوافع مرتكب العنف، وكذلك كيفية العمل ضد هذه الدوافع، ولكن نادرًا ما يكون أي
اهتمام يظهر في آثار العنف على الضحية، ماذا يعني أن يكون بلا حول ولا قوة، وتحت
رحمة عنف فرد ما؟ ما هي بالضبط العواقب قصيرة وطويلة الأجل للإصابات الجسدية
والنفسية التي لا يمكن تصورها؟ أن يكون الفرد تحت رحمة العنف الاعتباطي، وأن يعاني
من الألم الناجم، مما يحول جسم الضحية إلى مشكلة لهذا الفرد، وفي بعض الأحيان ترفض
الضحية جسدها بسبب الألم الحتمي الذي يتضمنه، وهذا يمكن أن يؤدي إلى أن تعبر
الضحية عن كراهيتها الذاتية؛ لأنها تخشى وتعاني من الألم والإهانة، والعجز بطريقة
لا تستطيع نسيانها.
ومع أخذ هذا في
عين الاعتبار، يمكن اعتبار الأخلاق المسيحية محاولة لرفض القيم القديمة التي جاءت
قبلها من أجل السيطرة على الجانب الشرير من البشر، والذي يحصل على المتعة عبر
الدمار، وقد أظهر التاريخ الأوروبي بوضوح شديد صعوبة محاولة وقف العنف البشري. ومع
ذلك، فإن أوجه القصور ونقصها ليست حجة ضد هذا المسعى، ففي الدين المسيحي، يمكن للفرد
رؤية الأمل (كما يفعل جيرار) لقطع الدائرة التي يتم إنشاؤها عندما يكون عمل من
أعمال العنف لكي ينتقم من آخر ..إلخ، فإذا كان من الممكن مسامحة العنف الناجم عن
عدو ما، فيمكن عندها كسر دائرة العنف.
إذا كان العنف آخاذًا؛
لأنه مرتبط بأوهام العظمة، وتعظيم الذات، أملًا في الهروب من العنف لفرد ما عن
طريق إلحاق الأذى به، فلا عجب في أن محاولات تفسيره ووضع الحجج ضده تثبت أنه صعب
جدًا، وإذا كان العنف قوة تدميرية بلا شكل محدد ذا صلات مختلفة في كل حالة، معربًا
عنها في كثير من الظواهر، فإنه بالطبع كثيرًا ما يكون من الصعب أو ميؤوس منه
محاولة مقاومة طبيعتها الكاسحة. وعلى الرغم من العديد من المحاولات في اللاهوت،
والفلسفة والعلوم لفهم كيفية نشوء العنف، يتم إحباط المعرفة مرة تلو الأخرى، وكل
محاولة لتفسير العنف يبدو أن لها نوعية افتراضية مؤقتة, ويكون نطاقها الغامض غير
قادر على الانحلال، وبما أن العنف كقوة حيوية لا يمكن تمييزه عن القوى البشرية
الأخرى، ولكنه ينشأ في حالات وأشكال
خاصة من تحول الطاقات المجردة، فمن الصعب بوجه خاص تفسير كيفية نشوء العنف؛ فالعنف
هو احتمالية للسلوك البشري، وهو مكون افتراضي للعالم البشري الذي يمكن استدعاؤه
وتجديده دائما.
وكل من يعاني من
العنف أو يشهده، يتعرض لخطر هشاشة الحياة البشرية وضعفها، وتلتزم المجتمعات
الديمقراطية الغربية بوقف وتوجيه العنف بين الأفراد، سواءً كان اقتصادي، أو سياسي،
أو اجتماعي، وتحتل الدولة دورًا محوريًا في احتكارها للعنف عندما يتم استجواب
احتكارها بأي شكل من الأشكال، مما يؤدي إلى الاخلال بالنظام السياسي، وعندما تعلق
طقوس التفاعل الاجتماعي بطريقة ما، فقد تحدث ثورات عنف، ويتحمل فيها أفراد أو
جماعات معينة المسؤولية، وعندما تفشل آليات تنظيم العنف في حالات كهذه، ينهار الغياب
النسبي للعنف في الحياة اليومية.
وتؤدي حالات
العنف المفتوح غير الملجم إلى التشكيك في نجاح التقدم البشري، كالحروب التي لا
يمكن وقفها، والتي تنطوي على فظائع مريعة، فالهجمات الشرسة ضد الطبيعة، تجعل الفرد
يدرك الضعف العميق للحياة البشرية وكيف انها مهددة باستمرار، كما أن من الممكنأن
يجعل إدراك الجانب المدمر للتنمية البشرية مواجهة قضايا العنف الاجتماعي والفردي
حتى عندما لا يكون هناك أمل في التخلص من المشكلة نهائيًا، وربما يكون التبصر في
حدود السيطرة على العنف أحد الشروط لإحراز التقدم البناء على الصعيدين الفردي
والاجتماعي في هذا المجال.
الآخــر
بقدر ما يُعنى
العنف في كثير من الأحيان بالعنف ضد أفراد آخرين، فإن فهم علاقة الفرد تجاه الآخر
يلعب دورًا مهمًا في محاولات تحقيق العلاقات الإنسانية السلمية، وبالنسبة لكل
مجتمع، يشكل الاتصال مع الآخر شرطًا أساسيًا لكل موضوع اجتماعي، ويرتبط الجسم
البشري، ويعتمد على الآخرين في الحمل، والإعالة والتنشئة الاجتماعية، وترتبط
الكثير من التجارب الفردية ترتبط مع الآخرين، عبر الإيماءات والطقوس، للمشاركة في
المباريات وتبادل الهدايا، ويوجه سلوك التحاكي دائمًا نحو فرد آخر، ويأتي الفرد على
حد سواء ليشبه الآخرين، فضلًا عن إدراك الحدود التي يمكن لأي فرد آخر أن يرتبط بها،
أو يفهمها بشكل كامل، لذا يجب مراعاة الجوانب الآتية:
- الآخر الذي لا مفر منه.
- الفرق والآخر.
- التخفيض
والقمع.
- الأجانب
الآخرين.
- النهج
المحاكي.
وهنالك تناقض
مستمر في العلاقة بين الذات والآخر، فهي تتأرجح بين النجاح والفشل، كما أن اللقاء
الناجح يستفيد منه كل من الذات والآخر، في حين أن فشلها سيعمل على حساب كل منهما.
الاخر الذي لا مفر منه
تحدث روسو في
مقاله عن التعليم كيف أنه من أجل أن يكون سعيدًا، يعتمد كل فرد على الآخرين؛ فالوجود
البشري نسبي، والجماعي على حد سواء، ومن أجل الحقيقة، فإن 'الأنا' لا توجد تمامًا
داخل الفرد، ومن المستحيل أن يكون الفرد حقا
راضٍ أو ممتن لنفسه دون أن يكون دائمًا على علاقة مع الآخرين. الفرد بحاجة إلى
الآخرين ليس فقط لعيش حياة سعيدة، ولكن أيضًا من أجل العثور على المتعة في نفسه،
ولا يمكن للفرد أن يختار العيش دون أفراد آخرين، حتى التراجع عن الاتصال مع
الآخرين لا يزال يعني العيش بالنسبة لهم، ويمكّن الآخرين الفرد من إدراك وجوده
الخاص، ويرجع ذلك إلى قدرته على توجيه حواسه وعواطفه تجاه الأفراد غير المعروفين له،
ولا يمكن العيش دون أن يتم لمس الفرد والنظر إليه والتحدث معه من قبل الآخرين دون
تمثيلها في داخله، فالآخر هو المرآة التي
من خلالها يرى الفرد ويكتشف ويتحقق من نفسه. فهي تسمح لنا أن نفهم التمثيل الداخلي
لأنفسنا، وبالتالي تطوير الوعي ، ويجعل هذا الاعتماد على الآخرين وتمثيله هو ما
يجعل الواقع الإنساني متجذرًا في الواقع الإنساني.
ومن أجل أن يكون
وجوده مؤكدًا وقادرًا على النمو، يحتاج الرضيع لأن يشعر بالاهتمام واللمس من الآخر؛
أي من خلال والديه، فحالة الطفل من "عدم الاكتمال" تتجلّى في اعتماده
على والديه، وعلى سلوكهما التعويضي، فمن
خلال الرعاية الأبوية فقط يمكن للطفل تحرير نفسه من الإحساس الأولي بالدونية،
وتحفز قدرة الطفل على التقليد من خلال إحساسه بعدم المساواة فيما يتعلق بالكبار،
فهو يتوق إلى الارتباط بالآخر والتشّبه به، وتشجع هذه العملية المحاكية سلوك
المحاكاة المتبادل للوالدين، الذي بدوره يفي بمطلب الطفل بالاعتراف، ويشجع الأنشطة
التي تؤدي إلى تحقيقه. كما أن شعور الفرد بالانتماء إلى أسرة ومجتمع يتجذر في هذا التفاعل
الأولي بين الوالدين والطفل.
وعند الولادة،
يكون الطفل مهيئًا بالفعل نحو وجود اجتماعي؛ ففي مراحل النمو المبكرة للرضع، يكون
هذا الاستعداد متنوعًا ومتخصصًا، ويشكل اللمس والاهتمام شكلا من أشكال التبادل
اللفظي بين الآباء والأبناء؛ فالكلام والاتصال البصري تتواصل مع شعور الطفل نحو
الآخر، ومن خلال التحدث والنظر إليه يختبر الطفل وجوده الخاص، من خلال اللعب مع والديه
أو مع أفراد آخرين ذوي مرجعية، فيجعلها الطفل أول تحقيقاته في العالم، ويطور أشكال
مبكرة من الوعي الذاتي.
وتمكن اللغة
الطفل من دخول عالم الآخر، حيث تلعب المحاكاة دورًا أساسيًا في هذه المراحل من
مرحلة النمو المبكرة للطفل، كما هو الحال في التفاعل المادي بين الآباء والأطفال، وذلك
أثناء تبادل اللمسات، والاتصال البصري والسلوك الطقسي، وعمليات المحاكاة المتبادلة،
فعندما يحضر الأهل إلى طفلهم، فإنه يستجيب مع ردود الفعل المحاكية التي تستثير
بدورها استجابة من الاهل ودعوة لمزيد من الاهتمام والمدخلات، كما أن الشعور بالوحدة
الجماعية الناتجة عن هذا النوع من التفاعل يمثل البيئة التي سيطور فيها الطفل
قدراته الأساسية؛ كالرؤية واللمس، والتذكر والتحدث.
ومن دون
الوالدين، لن يكون هناك أي حافز للتقليد. وحيث يظهر الوالدين للطفل ما يجب القيام
به، فيشجعون أدائه ويعترفون به عبر ردود أفعالهم، وهذا التبادل هو ما يحول الطفل
إلى كائن اجتماعي، فيدرك الطفل اعتماده على الآخرين، ويحصل على اعتراف الآخرين
بوجوده كشرط ضروري للحياة. إذ يتم تطوير البنية الشخصية للطفل في العلاقة المحاكية
بينه وبين غيره، كما يتم تبني ميزات الآخرين لتأتي فوق ذات الطفل القديمة، فهي
ترتبط مع الطفل من خلال تجربة الأفراد في بيئتها - التحديات والمصالح والرغبات
التي تقدمها – تجعل الطفل يخلق صورة الذات الخاصة به، والتي ستستمر في التطور طوال
حياته، وتشكل هذه الصورة الذاتية تشكلت من الردود التي تلقاها الطفل من الآخرين،
ويتم إنشاؤها وفقا لعمليات المحاكاة التي تجري بينه وبينهم.
إن التفاعل
الإنساني غير ملزم إلى الوقت الحاضر، فعندما يعيش الأفراد من مختلف الأعمار معًا،
يحصل التبادل بين الأجيال من خلال اللغة، سواءً منطوقة أو مكتوبة، وكذلك من خلال
العادات، فالتبادل البشري يعود إلى الماضي في حين أنه يشير نحو المستقبل. ويستفيد
الشباب من الإنجازات الثقافية للأجيال الأكبر سنًا؛ فالوجود الإنساني حاليًا يزيد
من اعتماد الفرد على المجتمع؛ أي إن الاكتفاء الذاتي الفردي، والاستقلالية،
والسيادة كلها مجرد أوهام،.حيث يحتاج الفرد إلى المجتمع من أجل النمو والتطور، ومن
دون الشعور بالارتباط بمجموعة أوسع، سيكون الأفراد معزولين وعاجزين. وتجعل هذه
الحقيقة من عدم اكتمال الإنسان من الاعتراف المتبادل ضرورة لأفراد المجتمع، فالاعتراف
هو ما يجعل الفرد يجد مكانه داخل المجتمع، بحيث يصبح كائنًا اجتماعيًا، فإذا فشل
الفرد في الحصول على مقدار الاعتراف الذي يحتاج إليه سيشعر بالتهميش والاستبعاد،
ويصبح "غير مرئيًا"؛ فالشعور بالوحدة والمرارة هما العواقب.
ويلعب الآخر دورًا
أساسًيا ليس فقط في تنمية الفرد ورفاهيته، إنما أيضًا في تنمية ورفاهية كل مجموعة،
مجتمعًا وثقافةً؛ فهو نظير لشعور الفرد بالذات والهوية فيما يعتبره بلده، تخلق
الخطوط الحدودية، وأنماط الترتيب الاختلافات التي يتم بموجبها تحديد هوية أخرى،
كما أن السياقات التاريخية والثقافية، والنظام الرمزي تحدد لماذا ينظر لفرد ما على
أنه الآخر، وبنفس وبالطريقة نفسها التي يعتمد عليها مفهوم الفرد للذات بالضرورة
على مفهوم الفرد "الأجنبي"، لذلك فإن الفرد في علاقة تكميلية مع الآخر، ولا
يمكن تصور الفرد دون الآخر، ولا يمكن تصور الآخر دون الفرد.
يتيح الانقسام
المتأصل في التشكل البشري للأفراد الاتصال بأنفسهم؛ فالانعكاسية هي شرط لكي يتصور الفرد
الآخرين، ويعتمد شعور الفرد تجاه الآخر إلى حد كبير على موقفه، كما تكمن المرونة
البشرية تعدد الأشكال التي يمكن للآخر اتخاذها؛ فعملية ربط ذات فرد ما بداخلية
وخارجية الآخرين يحدد أي موضوع يفهم كالآخر.
ويمكن مشاهدة
الآخر في العديد من الأشكال المختلفة؛ كالذي يعد أجنبيًا، أو عدوًا، أو مجنونًا،
أو شبح شرير، أو ما هو مقلق في الجنس الآخر، أو المقدس، وفي مثل هذه الحالات، يحدث
تداخل بين أشكال المحسوسة للغيرية، وبين الأشكال الأكثر تطرفًا المجردة للغيرية، وفي
الواقع، كل شكل ملموس من الآخر يشير إلى آخر لا يمكن تحديده, أو بعيد المنال
وراديكالي، وفي حالة الآله على سبيل المثال، فإن تداخل آخر
فرد مع آخر مجرد يبدو واضحًا بشكل خاص، ويمكن رؤية مثل هذه التداخلات في أشكال
أخرى أيضًا؛ فالأشكال المتعددة التي يمكن اتخاذها من أخرى هي نتيجة للترتيب الرمزي
للغة.
الفرق والغيرية
وفي ظل راية
المساواة، فإن الحضارات الأوروبية كثيرًا ما كانت تظهر الميل الخطير إلى القضاء
على الخلافات الأجنبية من خلال الاستيعاب؛ فالافتراض السائد هو أن البلدان
والثقافات الأخرى يجب ألا تبقى مختلفة، ولكن يجب أن تتحول لكي تصبح جزءًا من ثقافة
عالمية تعرفها أوروبا، حتى بين البلدان داخل أوروبا كان هذا الافتراض هو السائد، وطوال
التاريخ، ادعت بلدان مختلفة أنها تدبير في حد ذاته للروح الاوروبية، وأرادت وضع
معايير للحضارة الأوروبية والثقافة العالمية، على حساب الحروب الأوروبية
والعالمية. وبدلا من تقييم الخصائص الفريدة لكل ثقافة، وتعزيز هذه السمات
الثقافية، تميل الدول الأوروبية إلى المخاطرة بالتضحية بما هو خاص إلى ما هو عام، ولذلك، أصبح من المناسب الآن أكثر من
أي وقت مضى قبول خصوصيات كل ثقافة، وتشجيعها على الازدهار، وبالطبع سيكون من
الممكن على أساس الموقف الداعم للاختلافات بين البلدان والشعوب الأخرى أن يكتشف
ويطور إحساسًا بالمجتمع العابر للحدود.
وعلى الرغم من
الاختلافات الوطنية، فإن الظروف الاجتماعية المماثلة تعني أن الدول الأوروبية لديها
الكثير من القواسم المشتركة؛ فهي تشترك في نفس الهيكل الديمقراطي، والنظام
الاقتصادي، فضلًا عن العديد من التقاليد الثقافية، كما أن العمر المتوقع ومستويات
المعيشة هي أيضًا نفسها، وكثيرًا ما تكون هذه النقاط المشتركة هي الأساس الذي تقوم
عليه مختلف البلدان للاتصال والتواصل والتوحيد، وقد ساهمت العديد من العوامل، بما
في ذلك وسائل الإعلام الجديدة، في هذه "الأرضية المشتركة" الأوروبية،
ومع انتشار وسائط الإعلام، فإن الأحداث التي تغطى في جميع أنحاء أوروبا، يتم نشر المعلومات
نفسها، فيمكن أن تحدث الأحداث في وقت واحد، وتبث على شكل صور وتقارير، وتصور الأفراد
من خلال السرعة العالية التي تنقل بها المعلومات، وذلك عن طريق الصور العديدة،
وعملية التصغير (من خلال التلفاز.. إلخ).
إن الشعور
الجمالي هو التمثيل الإعلامي للعالم الذي يتم ادراكه؛ فعمليات التجريد والتمثيل
التصويري أصبحت مكثفة، ويسهل ظهور الفهم المقولب من قبل وسائل الإعلام عولمة
المواقف والقيم والمعرفة، وهذا بدوره يؤدي إلى عولمة المنتجات والمال والعلامات،
مما يزيد من ديناميكيات المجتمعات الصناعية التي تهدف إلى تقليص ما هو غير معروف
إلى شيء مألوف، وأكثر عمومية.
في مواجهة هذه
الحركة نحو العام، من المهم تعزيز ما هو الآخر، ودعم خصوصيات كل ثقافة معينة.
وبالتأكيد، فتعدد الثقافات تعد سمة أوروبية تستحق الحفاظ عليها؛ فبدلًا من تصور
الثقافة بوصفها وحدة متجانسة، من الأفضل التفكير فيها على أنها تكتل من الاختلافات
العميقة، باعتبارها طرقا متعددة للانتماء والوجود، وبوصفها تنوعًا عميقًا، كما أن
هذا الفهم الجديد للثقافة هو نتيجة لامركزية العالم، وتجزئة الثقافات.
ويمكن أن يسهم
تقدير التنوع العميق في الحد من المشاعر السلبية والعدوان تجاه ما هو أجنبي،
وتشجيع المواقف التي تكون أكثر انفتاحا تجاه الآخرين، وبالتأكيد، ففي قبول
الاختلافات يكمن شرط أساسي لخلق الوعي بين الثقافات. وتمكن المعرفة الحقيقية وقبول
الاختلافات بين الآخرين في فتح الطريق
أمام التفاهم والصداقة، والتعاون.
وهناك ثلاثة أبعاد رئيسة للفهم تلك التي تعتبر الآخرين:
- البعد الأول
يتعلق بأحكام القيم؛ كيف يمكن النظر إلى
أعضاء الثقافة الأجنبية؟ يمكن للفرد الشعور بأنه منجذب له أو الشعور بالنفور منه؟
وما هي عواقب هذه التصورات والمشاعر؟
- البعد الثاني
يتعلق بالنهج تجاه آلاخر؛ ما هي الإمكانيات المتاحة للاتصال ؟ هل يبحث الأفراد عن
الاتصال مع أولئك الذين ينظر إليهم على أنهم مختلفون؛ وهل يرغبون في أن يكونوا
قريبين منهم؟ هل يمكن للفرد التعرف مع الآخرين واستيعاب نفسه؟ وهل ان بعض الأفراد
تبعية أنفسهم إلى الآخر في نوع من النشوة بكل ما هو أجنبي؟
- البعد الثالث،
إلى أي مدى يعرف الفرد حًقا اولئك الذين يمكن اعتبارهم مختلفين، وما مدى معرفته بهم؟
ويكتسي ذلك أهمية خاصة في الحالات التي لا يوجد فيها اتصال مع الآخر.
وتعترف جميع
الأبعاد التكميلية الثلاثة بالطابع المنفصل للطرف الآخر، ولكي يقبل الفرد الآخرين،
عليه التغلب على نفسه، وهذا الأمر يأخذ قدرًا معينًا من الشجاعة، عندها فقط يمكن
أن يكون الآخرون معروفين، لتجربة أجنبية الآخر، ويجب أن يكون الفرد مستعدًا
لاكتشاف والتعرف على الآخر داخل نفسه، فلا يوجد فرد بحد ذاته. فهناك دائمًا أجزاء
متناقضة للفرد نفسه، يمتلك إرادة خاصة به، وعلى الرغم من أن هذا الموضوع يحاول قمع
تناقضاتها الرئيسة لتكون حرة، مرارًا وتكرارًا، وتحبط حريتها من قبل الدوافع غير
المتجانسة والقواعد التنظيمية، من أجل إدراك نفسها، يجب على الأنا تقر وتشمل تلك
الأجزاء المستبعدة عن ذاتها، وهذا أيضا شرط ضروري لأي نهج متسامح، أو مفتوح تجاه
الآخرين.
وتتعتقد العلاقات
بين الذات والأخرى بسبب عدم وجود كيان مستقل
تماما، فيتم تضمين العديد من أشكال أخرى في تشكل الموضوع، بعيدًا عن القائمة فقط
خارج الانا، فأن الغيرية تتواجد أيضًا داخل كل فرد، وقد يعيق الآخر الداخلي للفرد
نهج ذلك الفرد تجاه الآخر الخارجي، فلا توجد أرضية صلبة للموضوع خارج الآخر، أما
الآخر فهو موجود دائما داخله، ولكن ما هو الآخر؟ وكيف ينظر إليه؟ وألا يعتمد على
هذا الموضوع فقط. إن الانطباعات التي يصنعها الآخر من نفسه، وإن كانت غير متجانسة
بالضرورة، لها القدر نفسه من الأهمية في تحديد الصورة التي يمتلكها الفرد.
ولا يمكن تصور
الهوية دون الغيرية؛ فالموضوع- رغم كونه مجزأ، ولا يمكن اختزاله في طابعه الخاص-
في علاقة ثابتة مع الآخر بأوجه متعددة، إن هناك جانبان آخران يلعبان دورًا في هذه
العلاقة، وهما:
- الطبيعة الفريدة- في كل فرد- للصلة بين الغيرية والهوية (بسبب ظروف
الحياة الخاصة لكل فرد وخبرته، وما إلى ذلك)؛
- تاريخ كل من 'الذات'، أو 'الخاصة'، بعكس ما هو 'أجنبي'، وفضلًا عن
تاريخ العلاقة بينهما.
وإذا كان لابد
من التساؤل عن الغيرية، فلا بد التساؤل عن الذات، والعكس بالعكس، ثم أن فهم الآخر
بالضرورة ينطوي على عمليات الفحص الذاتي، والاعتراف الذاتي والتنمية، فكلما أصبح
الأجنبي أكثر ألفةً، يصبح هناك شعور متزايد بالانفصال الذاتي، أو بالذات الأجنبية،
وبما أن العالم يزيل الغموض عن نفسه تدريجيًا، وينهي ما هو غريب، فإن الخطر ينشأ
في المستقبل بأنالفرد سيلتقي بتشابهات مع نفسه، وبالتالي سيفتقر الأفراد إلى إمكانية النمو والتنمية التي يتم توفيرها من خلال
الاتصال مع ما هو غير مألوف وأجنبي، وإذا كان فقدان الاجنبي يهدد التنمية البشرية،
فمن المؤكد أنه يجب حمايته، وفجأة يصبح من المهم أن يكون الفرد غير مألوف لما هو
غير معروف، وأن يحمي الأجنبية الذاتية للفرد، فمحاولة الحفاظ على الأجنبية داخل
الفرد، وكذلك الأجنبية في خارجه، يمكن أن تكون قيمة مضادة للحركة في الاتجاه
العالمي نحو تسوية الخلافات.
وبما أن الفردية
تتكون من خلال الاندماج مع الآخر، فمن السهل جدا أن يؤدي اختفاء الأجنبي إلى فقدان
الفرد؛ فقوة القيادة الفردية التي لا يمكن قياسها تتطلب قوة ذاتية؛ أي تحقيق ما
أصبح عليه وماهيته، وما يريد أن يصبح عليه، فمفهوم الذات، والبناء الذاتي، والتأمل
الذاتي تلعب دورًا في هذا. كما أن هذا النوع من المعرفة مؤقت، ويتغير في جميع
أنحاء الحياة الفردية، ويعرف أندريه جيد André Gide)) الفرد في روايته المزور( Les Faux Monneyeurs) على أنه يعتقد نفسه موجودًا، وهذا يتغير باستمرار بحيث يبدو في كثير
من الأحيان كما لو أن كينونتي التي في المساء لن تعترف على تلك التي كانت في
الصباح، فلا شيء أكثر اختلافًا للفرد من نفسه.
وليس هناك مفتاح
أفضل للمواقف المنفتحة تجاه الآخرين من أن يكون على بينة من عدم الهوية؛ فالمواجهة
مع الثقافات الأجنبية، ومع الآخر في الثقافة الخاصة، ومع الأجنبي في شخصية الفرد،
يعلمه الإدراك والتفكير من وجهة نظر الآخر.وهذا التغيير في المنظور، يجب أن يمنع
بسهولة كبيرة من الحد من الأجنبي إلى ما هو يخصه.
والرؤية وجهة
النظر الأخرى، يجب تطوير التفكير غير المتجانس، وهذا هو تعليق إحساسي للذات،
والتفكير في ذلك من خلال عيون الفرد الآخر.
والمهم في هذا
هو العلاقة بين ما هو مألوف، وما هو أجنبي، والعلاقة بين المعرفة والجهل، واليقين
وعدم اليقين. وقد أدتّ عمليات إزالة الطابع التقليدي والحياة الفردية، والتمايز،
والعولمة إلى أن الحياة اليومية، التي اعتبرت على خلاف ذلك، تصبح موضع شك ،وتتطلب
التفكير الفردي واتخاذ القرار، ومع ذلك، فإن هذا لا يعني بالضرورة زيادة في الحرية،
وغالبًا لا تكون الشروط التي يمكن بموجبها اتخاذ قرار في نطاق سيطرة الفرد، ففي
مجال القضايا البيئية، على سبيل المثال، قد يكون الفرد قادرًا على اتخاذ قرارات
واعية بيئيًا، ومع ذلك لا يكون لها تأثير يذكر على الهياكل الكلية للمجتمع، التي
تحدد حقًا نوعية البيئة.
إن التغيير في
فهم للواقع يؤدي إلى تصورات جديدة لما هو أجنبي وغيره؛ فالواقع لم يكن أبدًا شيئًا
لا يمكن الاعتماد عليه، ففي العصور القديمة، كان الواقع لا يقاوم في لحظة ظهوره،
وفي العصور الوسطى، كانت الحقيقة مضمونة من قبل الآله، كما أن عصر التنوير له سبب
سيادي يملي تصور الفرد ومعالجته للواقع؛ ولكن اليوم، يتم بناء الواقع وتفسيره،
وتجربة الفرد له مجزأة، وغير متجانسة؛ لأن وجود بناء الفرد وتفسيره للعالم يعني
مواجهة بناء وتفسير الآخرين، وتعد التعددية نتيجة ضرورية لتصور مجزأ للواقع، ولا
يمكن لأي رأي منفرد أن يدعي أنه صحيح تمامًا؛ فكل تفسير يقتصر على وجهة نظر
الآخرين، ومن ثم فإن تجربة الفرد الخاصة بالعالم معقدة، كون أن تفسيرات الآخرين
ومفاهيمهم يجب أن تؤخذ في الاعتبار كبديلين ممكنين.
وبما أن العالم أصبح
أكثر تعقيدًا وغموضًا، يشعر الفرد بانعدام الأمان على نحو متزايد، وتعتمد أوجه
الشك وانعدام الأمن على البيئة الخارجية للفرد، وعلى عالمه الداخلي، وكذلك على
العلاقة بين الخارج، والداخل. وقد يحاول التغلب على هذا الشعور بالضعف، من خلال
محاولة الظهور على نحو متيقن ومطمئن ذاتيًا، ولكن هذا لا يعوض تمامًا عن الفقدان
العميق للأمن في الداخل، وعلاوة على ذلك، فإن أي تيقن مؤكد يكون نسبيًا، ويستند
عادةً إلى الاستبعاد التعسفي للبدائل، فما يقرر الفرد استبعاده، يتحدد بحالته
النفسية والاجتماعية، فضلًا عن الهياكل السلطوية في المجتمع والقيم، والمعايير
والأيديولوجيات، والخطابات التي تميزه.
ويأخذ العالم المتضمن
مفاهيم متعددة من الواقع والعلم في العمل
بعدًا جديدًا من الأهمية، من حيث تطوير ومعالجة المعرفة الفردية والاجتماعية،
وتجربة الاختلاف، وبدون معرفة بعض الاختلافات، لا يمكن أن يكون هناك نهج بناء إزاء
الثقافات الأجنبية، كما أن مفهوم الاحتمالية نسبي في هذه الحالة، ويكون الأمر طارئا
إذا ما كان يمكن أن يكون كذلك، وإذا كان يبدو غير مخطط له أو حدث بالصدفة، وعلى
الرغم من أنه قد يكون قد تأثر بالأفعال. وبعبارة أخرى، أن الطارئ هو نطاق
الاحتمالات المفتوحة؛ فبعض الأحداث طارئة على الرغم من أنها قد تنجم عن تصرفات فرد
ما؛ لأنه لا يمكن القول مسبقا كيف، أو لماذا تطور شيء ما بطريقة أخرى.
ويعد الطارئ هو
الشيء الذي يكون غير ضروري أو غير
مستحيل، والذي يمكن أن يكون الطريقة الكائنة (أو التي كانت، أو التي ستكون)
والممكنة أيضًا، وهكذا، فإن المفهوم يشمل ما هو مقدم او مجرب، أو
مفهوم، أو متوقع
من الفكر المتخيل من حيث الامكانية الغيرية؛ فهو يشير إلى الأفق من التعديلات
الممكنة، ويفترض مسبقًا العالم الذي يعرفه الفرد، ولذلك لا يشير إلى مجال الاحتمال
المطلق، بل إلى ذلك الكائن في الواقع الذي يمكن أن يكون غير ذلك، ويمكن اعتبار هذا
التعريف أيضًا وصفًا للواقع المعاصر الذي يلعب دورًا تأسيسيًا؛ فمواجهة الآخر هي
مواجهة حالات الطوارئ، وبالتالي لا يمكن أبدًا أن تكون مخططة تمامًا؛ لأن النتيجة
غير مقصودة جزئيًا، وبالتالي لا يمكن التنبؤ بها، وتخلق الحالات الطارئة تصورات
جديدة محتملة عن الاجنبي، والذات التي تشير بدورها إلى آفاق غير معروفة، وهياكل
جديدة للتفكير، وتكمن عملية الاعتراف بالاحتمالات الطارئة، الفرد من اكتساب وعي
افتراضي، وتتيح نهجًا جديدًا للآخر.
التخفيض
والقمع
الخطاب من جهة
أخرى، يجب أن يأخذ في عين الاعتبار الجوانب النفسية، والمعرفية، والثقافية التي
ترتبط على التوالي مع تقاليد العصبية اللغوية والذاتية والعرقية.
وعلى الرغم من
أنه يبدو لبرهة من الوقت كما لو تم الكشف تدريجيًا عن الآخر، وإزالة الغموض عنه،
وهذا لم يتم اثبات صحته، إن الأمور والحالات والأفراد، في وسط العالم المألوف
والمعروف جيدًا، أصبحت الآن أجنبية وغير معروفة على نحو متزايد، ويجري التشكيك في
معايير المعيشة التي يتوقع أن تبقى آمنة ومألوفة، ومن المسلم به أن الاستراتيجية
التي تتألف من إزالة الغموض عن ما هو غير معروف من خلال زيادة الفهم نجحت في جعل
العديد من الأشياء الأجنبية تبدو أكثر دراية، واستبدال انعدام الأمن لدى الأفراد والخوف بالثقة، ولكن هذا الشعور بالأمن غالبًا
ما يكون سطحيًا فقط؛ وفي داخله وعلى هوامشه، ولا تزال مشاعر الخوف والخطر قوية، كما
أن ايماءة صنع العالم المألوف لم تحقق توقعات الفرد، وبدلًا من ذلك، فإن زيادة
عالم المألوف يعني توسيع مجال المجهول؛ فمعرفة المزيد عن ذلك لا تجعل العالم أقل
تعقيدًا، وفي الواقع، كلما عرف الفرد عن الظواهر والارتباطات، كلما زادت الأشياء
التي لا يعرفها، ومرة تلو الأخرى، يبين الجهل حدود المعرفة فضلا عن حدود العمل
الإنساني القائم على تلك المعرفة، وعلى الرغم من أن تلك المحاولات غالبًا ما تبذل
للحدّ من الآخر إلى مفهوم المشابهة، وبهذه الحالة لا يمكن التغلب عليه.
ويعبر الآخر عن
نفسه في المركز وفي حدود المألوف، ويطالب أن ينظر فيه، وقد وصف إلياس
(Elias) وفوكو Foucault)) وبيك( (Beck بالتفصيل العمليات التي ينطوي عليها دستور
الموضوع الحديث، وظهور النزعة المركزية.
وتشارك تقنيات
الذات في تطوير المواضيع، وترتبط الكثير من هذه الاستراتيجيات بفكرة وجود الذات
القائمة بذاتها، والتي تستدعى كمركز عمل محدد للموضوع، لكي تعيش حياتها الخاصة،
وتطور السيرة الذاتية الخاصة بها، ولكن الآثار الجانبية غير المرغوب فيها لموضوع
المكتفي ذاتيًا متعددة ومتشعبة، وكثيرًا ما يخفق موضوع تقرير المصير في تقرير
المصير.
وبالإضافة إلى
ذلك، يمكن للقوى الأخرى غير الملتزمة بالمبادئ نفسها التصدي لتقرير المصير والأمل
في العمل المستقل، فتشكل الموضوع يتناقض باستمرار من حيث كون النزعة المركزية
الكامنة تشكّل من جهة استراتيجية البقاء، والاستحواذ والسلطة، ومن ناحية أخرى،
تميل إلى تقليل الاختلافات وإبرازها، ويبدو أن محاولة الموضوع لاختزال الآخر إلى
فائدته ووظيفته وتوافره تنجح وتخفق؛ فهذه الرؤية تفتح آفاقًا جديدة للتعامل مع
الآخر، فضلًا عن مجالات جديدة من المعرفة والتحقيق.
وكنتيجة لمركزية
المنطق، يجب التصور والتعامل مع الآخر وفقًا
لقواعد العقل، فالفرد فقط موجود في مجال الرؤية القادرة على المنطق، أو التي
يشكلها العقل؛ فكل شيء آخر يتم استبعاده واختزاله؛ فالذي يقف بجانب العقل هو
بالضرورة صحيح، وهذا صحيح حتى للسبب المختزل للعقلانية الوظيفية. وهكذا، يقف
الآباء فوق الأطفال، والأفراد المتحضرين فوق البدائيين، والاصحاء فوق المرضى. ان فأولئك
الذين يمتلكون العقل متفوقون على أولئك الذين يمتلكون أشكالًا مسبقة، أو أشكالًا
ضعيفة من العقل، وكلما كانت لغة الفرد أو منطقه يختلف عن اللغة العامة، كلما كان
الأمر أكثر صعوبة في الفهم والتعامل مع هذا الفرد. وقد انتقد نيتشه، وفرويد، وأدورنو،
وكثيرون آخرين سبب العقل الذاتي، وأشاروا إلى أن الأفراد يعيشون في جميع أنواع
الطرق التي لا يمكن فهم العقل فيها بشكل تام.
وعلى مر
التاريخ، خضع تقليد العرقية أيضًا بحزم لجميع أشكال الغيرية، وحلل تودوروف
Todorov)) وغرينبلات ((Greenblatt وغيرهم العمليات التي انطوت على تدمير الثقافات
الأجنبية، ومن أكثر الأمثلة المروعة هو استعمار أمريكا اللاتينية باسم المسيح
والملوك المسيحيين؛ فقهر القارة يعني القضاء على الثقافات الموجودة هناك، وحتى في
أول اتصال معها، طالب الفاتحين من مواطني تلك الثقافات عبر تخويفهم بالاسترقاق أو
الموت، الاتفاق مع معتقداتهم، وبقوة لا تصدق ثبتوا المعتقدات والقيم الخاصة بهم،
كما لو كان الأمر هو خلق عالم خال من الغيرية، وقد مكنت الاستراتيجية المتعطشة
لسلطة الغزاة من التحريض على استئصال السكان الأصليين، ففشلت الشعوب الأصلية في
فهم أن السلوك الإسباني الذي يحسب بدقة استخدام لغتهم لتضليلهم، فلم يكن الود ما
بدا عليه؛ ولم تستخدم الوعود المقطوعة في التوصل إلى اتفاقات، بل لتضليل الآخرين
وخداعهم. وكل عمل يخدم غرضًا آخر من الأغراض المزعومة، فكانت مصالح التاج، وواجب
التبشير المسيحي، ودونية السكان الأصليين إدعاءات تستخدم لإضفاء الشرعية على
السلوك الاستعماري، وبقي الجشع والدوافع الاقتصادية صامتين، ومنع بالفعل الغزاة من
تملك صورة الذات، أو رؤية العالم.
ولقد كان
كولومبوس قادرًا فقط على إدراك السكان الأصليين الذين كان يعرفهم من قبل، فرأى
علامات في عالمهم يمكن أن يشير إليها بالرجوع إلى الأشياء المألوفة له، وتلك التي
يمكن أن يقرأها، ويصنفها، ويفسرها من حيث إطار المرجعية الخاص به؛ مثل سرير
القسوة، الذي يوضع فيه كل شيء أجنبي ليتناسب مع هيكل معين، فالآخر مغطى بصور الفرد
نفسه ورموزه، ومندمج فيها، وأي شيء يفشل في التناسب، يبقى خارج مجال موضوع الإدراك
والاستيعاب، ولا يوجد أي تحرك ممكن نحو الآخر، أما الشعور بالإعجاب والشعور
بالعجائب في العالم الجدي،د فجميعها كانت نتيجة لذلك، كما أن المظاهر الفريدة من
نوعها وغير العادية من العالم تتم مقارنتها، وذكرها من جانب الصور الحلمية، فالعالم
الخارجي الفعلي غارق في وصف حالم، ويعد مجرد التساؤل هو تجربة فشل - التعثر العكسي
على الخرافات الفروسية القديمة - وفشل الرؤية، حيث أن الرؤية لا تقدم أي ضمان بأن
الكائنات البصرية موجودة بالفعل.
إن الاستغراب هو
في الواقع عقبة تحول دون أي تحرك نحو الآخر، وتكثف إحساس الموضوع بالإثارة في
مواجهة المجهول، ونتيجة لهذه الحركة المحظورة يحصل تباعد بين الموضوع والآخر الذي
يحفز رغبة الموضوع للتغلب على الحدود بينهما.
وهناك طريقتان
ممكنتان للقيام بذلك؛ الأولى: هو تطوير التمثيل للآخر، والتي يمكن بعدها أن يتحول
"الأجنبي"، وبالتالي يسهل التعامل معه، فمحاولات الاقتراب من الآخر من
خلال الخطاب، وعن طريق التمثيلات الخطية هي نوع من هذا الترتيب، وبهذه الطريقة،
يمكن تحقيق شكل من أشكال قبول الآخر الذي يشمل كلا من الآخر الأجنبي الخارجي،
وكذلك الآخر داخل نفسه والمألوف، وفي التمثيل التصويري الخطابي والأدبي، يصبح
الآخر الذات، وتصبح الذات الآخر، والبديل هو التأكيد على اختلاف الآخر الذي لا
يمكن التغلب عليه. وفي هذه الحالة، لا يمكن للآخر أن يتحول، وتمر الحركة هنا من
خلال تحديد استكمال النفور، وللحظة يرى الفرد نفسه منخرطًا مع الآخر، ولكن بعد ذلك
تجعل الآخر غريبًا، فهو شيء، يمكن للفرد تدميره أو دمجه في الحال.
ولقد كان هذا هو
ملاذ الغزاة الإسبان، حيث لم يتمكنوا من تحمل الفروقات التي يمثلها السكان
الأصليون، ولم يكن يريدون تحملها، وبدلًا من ذلك، فضلوا وشعروا بأنهم مضطرون
للاستيلاء على عالم السكان الأصليين، ويمتد حلم الغزاة بالملكية إلى أرض البلد وذهبه، وإلى أجساد
وأرواح شعبها، إلا أنه لم يكن ممكنًا إلا من خلال الدمار، وفقط عندما دمر العالم
الجديد فقد الغيرية. وما تبقى تم التخلص منه الغزاة.
إن تدمير السكان
الأصليين، والاستيلاء على ارضهم، كان بالنسبة للإسبان وسيلة لحماية أنفسهم من
المجهول الذي يخشونه، فكانت تقارير وهمية عن أكلة لحوم البشر بين السكان الأصليين
تعبيرًا عن خوف الغزاة من التعرّض للقتل، والالتهام، أو الذوبان والاندماج.
كما أن لهجة الفصاحة
في الاشمئزاز أمام من يسمون بأكلة لحوم البشر هي محاولة لنأي أنفسهم عن مدى
افتتانهم بالسكان الأصليين، فكان تدميرهم طريقة أخرى لخلق مسافة تفصل الغزاة عن
السكان الاصليين، ويمكن اعتبارها استراتيجية للحماية الذاتية، والبقاء على قيد
الحياة، فقد كان القضاء على السكان الأصليين وسيلة لتدمير غيريتهم التي لا تطاق،
وبالتالي طمس التهديد الذي كان يشكلونه.
ولقد استولى
الغزاة على كل ما كان في وسعهم أخذه، وتخلصوا منه حسب رغبتهم، فلم تكن هناك معارضة
ولا نقاش، ولم يكتفوا بامتلاك واستغلال ثروات الأرض ونساءها؛ فقد كان الغزاة
متحمسين أيضًا لتحويل المواطنين إلى الرموز الدينية الخاصة بهم، وبالتالي وضع
اللمسات الأخيرة على إخضاعهم من خلال المطالبة بخيال الآخرين، فبدلًا من السعي إلى
إثراء الذات من خلال الانفتاح على الأجانب، كان الاحتلال والدمار هي النتائج
المحزنة لذلك الامر.
إن العصبية
الذاتية والعرقية واللغوية مترابطة وتعزز بعضها بعضًا كاستراتيجيات لتحويل الآخر.
وهدفها المشترك هو مماهاة الأجنبي، أو الآخر إلى ما هو غير أجنبي؛ أي إلى الذات،
وبالتالي القضاء عليه، ويمكن ملاحظة العمليات المعنية على العديد من المستويات، وليس
فقط الثقافات المتعددة التي دُمرت نتيجةً لذلك، بل أيضًا حياة العديد من الأفراد
الذين يعيشون في المجتمعات الذين اضطروا إلى التغيير والتطابق؛ فالوضع مأساوي بشكل
خاص في الحالات التي تم فيها القضاء على الثقافات المحلية أو الإقليمية، ولكن ما
من قيم ثقافية أخرى من شأنها مساعدة الأفراد على التكيف مع ظروفها المتغيرة.
الاخرون الاجانب
تعتبر
الأنثروبولوجيا الثقافية نفسها علما يهتم
بالأجانب، ففي السنوات الأخيرة، كان هناك اتساع في النقاش المعرفي حول الآخر في
كيفية فهمه وتخيله وتمثيله؟ وقد تم الافتراض لفترة طويلة أن الآخر يمكن الاعتراف
به، وفهمه وتمثيله على نحو سليم،. ولكن هذا الامر الآن يُعد موضع شك وتساؤل.
وكيف يرتبط الفرد
-على سبيل المثال بنقطة نظر، ومعايير واحدة؟ وهل من الممكن تمثيل ثقافة أجنبية
بدقة دون فقدان مفهوم الثقافة الذاتي؟ وهل تمثيل "الفكر الذاتي" للثقافة
وسيلة مناسبة للتحقق منها؟ أليس هنالك دائما أجزاء من الواقع المجتمعي تركت
"تصور الذات" الخاص بها؟ ما هو هذا الواقع؟ وكيف يمكن فهمه؟ هل يمكن
استيعابها من خلال التمثيلات المرتبطة بالبحوث المعينة؟ ما هي جوانب واقع الثقافة
التي يرى المحققون أنها مشوهة، أو تخلت عن مجال رؤيتهم بأساليب التحقيق الخاصة
بهم؟ إلى أي مدى تتكون صورة الاثنولوجيا للأخر، ففي الواقع مجرد تمثيله الخاص يُعد
مجرد بناء أجنبي. حتى لو كان هذا صحيحًا بشكل جزئي فقط، لابد من إثارة السؤال
الأساسي ألا وهو إلى أي مدى يخلق كل مجال من العلم موضوع تحقيقه.
تشكل دراسات الحالة
طريقة مركزية للبحوث الإثنولوجية، إذ يتم جمع المعلومات وفقا لعملية يشارك فيها
علماء الأعراق في الثقافة الأخرى، ويسجلون ملاحظاتهم في حساب العمل الميداني
المكتوب، وعلى الرغم من أن الملاحظة
التشاركية، والوصف المكتوب للآخر في دراسات الحالة في الأنثروبولوجيا الثقافية لا
تزال تلعب دورًا مركزيًا، فنحن الآن أكثر وعيًا من الاختزالات التي تنبع من العمل
بهذه الطريقة، وبالطبع فأن المراقبة تحت هذه الظروف تعني أن الآخر لا ينظر إليه
إلا على نحو معين، أيًا كان تعبير الآخر فإنه مثل قراءة نص وتحويله لاحقًا إلى
حساب مكتوب، وتتمثل مهمة علماء الإثنولوجيا في تقديم وصف سميك، إلا أن فهم ووصف
ثقافة الآخر لا ينتقل إلا من بنية النص للآخر إلى التمثيل النصي له، وهذا النوع من
الوصف المحكم للظواهر يرتبط بالشروط الآتية: أ) يمكن قراءة وتفسير مظاهر وأشكال
التعبير عن الآخر مثل النص؛ (ب) بعد ذلك يمكن ترجمة هذه القراءة إلى شكل مكتوب من
النص يمثل الآخر بشكل حقيقي؛ فالاستفسار في صحة هذه الشروط، يحتمل أن يقلل من
أهمية، وقيمة المواد التي يتم جمعها بهذه الطريقة.
وتواجه
الأنثروبولوجيا الثقافية التأويلية خطر الانحلال لما هو مختلف؛ أي الاختزال أوعدم
التطابق مع المفهوم العام للفهم، حيث يتم تشويه الأجانب بشكل مناسب، وبالتالي
إساءة معاملتهم من أجل ان تناسب الطريقة الإيجابية العالمية للتخصيص التأويلي، فمن
خلال التمعن في الثقافات الأخرى، يجب أن يتجنب العلم إلاغراء القائم على جعل تلك
الثقافات مسطحة بمفاهيم عامة، ويقارب علم الأعراق التأويلي العالم من خلال
القراءات والتفسيرات، وفي أثناء قيامه بذلك، فإنه يركز أيضًا على العلاقة بين
الآخر والعالم؛ أي بين الإطار المرجعي
لعالم الأعراق، وثقافة أخرى.
ويتم جلب المفسر إلى التفسير، فالأنثروبولوجيا الثقافية التأويلية تنطوي على
أساليب الاعتراض، فضلًا عن أساليب تعكس العالم والمراجع الذاتية. وهذا يؤدي إلى
إثنولوجيا النفس، وهي ذات أهمية تكميلية حاسمة لإثنولوجيا الآخر.
في الإثنولوجيا،
يظهر الآخر عند المعبر بين التحليل الثقافي والنظرية الأكثر عمومية للبشر، وكذلك
في الترجمة الإثنوغرافية والوصف، واقترح مالينوفسكي ((Malinowski، في مقدمة
كتاب "أرغونوتس في غرب المحيط الهادئ"، ثلاث طرق تكميلية متبادلة،
وهي:
- توثيق
البيانات الإحصائية المجمعة من خلال الاستقراءات والملاحظات، وذلك بهدف وضع قواعد
وأنماط منتظمة.
- التسجيل
المنهجي والمستمر في مجال العمل الميداني، والملاحظات التي يتم إجراؤها على سلوك الأفراد
الذي يدرسه الفرد.
- جمع الروايات
النموذجية، والتعابير والصيغ السحرية.
وتحول هذه
الإجراءات الآخر إلى "كائن حميم ومنهجي خاضع للمراقبة العلمية، والغيرية من
خلال الابتعاد، والسياقية،
والاشتمال (الشمولية)، وقد قام مالينوفسكي، بصفته خبيرًا في
علم الأعراق إلى تمثيل موجز للمجتمع الأجنبي، فكونه غريبًا، كان قادرًا على رؤية
أهمية الخصائص التي لاحظها، ثم أصبح مالينوسكي مترجمًا، ومراسلًا، ومتحدثًا عن
الثقافات الأجنبية التي درسها، ولكن في جميع هذه الوظائف المختلفة، لم يكن هناك
حتى الآن أية عملية تفاعلية في العمل بين الباحث وممثلي الثقافة الأجنبية، وفقط
كعالم أعراق يمكن أن يكون نشطًا وخلافًا، فقد كانت الدراسات الأحادية تشكل النص
الأنسب لتناصية مالينوفسكي وأبحاثها وتمثيلها، وبقيت شكلًا مركزيًا للنصوص
الإثنوغرافية والموضوعية والتمثيل، ففي عمله، ضرب مالينوفسكي على وتر الصعوبات
بحيث يتوجب على معرفة الآخر أن يواجه: معضلة تشكيل الكائن، والعلاقة المتناقضة بين
التقارب والمسافة، والخصوصية والعامة؛ ودور عالم الاعراق المزدوج كعامل ميداني
ومؤلف، وقد أدت هذه الصعوبات منذ ذلك الحين إلى إثراء علم الأثنولوجيا في المسائل
المتعلقة بالنصوص والخطاب، فضلًا عن تجربة أشكال جديدة من التمثيل.
ولقد ساهم
كليفورد جيرتز((Clifford Geertz إلى حد كبير في المناقشات حول الآخر وتمثيله
المحتمل، وكان عمله
أساسيًا في التحول التأويلي في الأنثروبولوجيا الثقافية، وبدلًا من دراسة السلوك،
أصبحت دراسة الحياة الأجنبية والتصاميم العالمية أمرًا مركزيًا، فما الأهمية التي
يوليها الأفراد لمشاعرهم وأفعالهم؟ كيف يمكن وصف هذه الصلات؟ إذ تنشأ هذه الأهمية
عبر مزج التفسير الفردي والتفاهم الجماعي بين التقليد والتفسير الجديد؛ ولأنها
تتشكل اجتماعيًا، فهي بالتالي تعد أمرًا عامًا. ويكمن محور هذا النوع من البحوث في
تفسير النظم الرمزية التي يراها الأفراد من الثقافات الأخرى بأنها توضح وتفسر
عالمهم.
وتركز البحوث
على النوايا الفردية للأفراد، وعلى التفسيرات الخاصة لأفعالهم، أكثر من التركيز
على المعنى الموضوعي لنواياهم وأفعالهم؛ فالهدف من ذلك هو التحقق في ماهية القيم
والمعاني والتوجهات من السلوك المتاحة في ثقافة أخرى، وهذا يتضمن توظيف المفاهيم
المناسبة في الوصف السميك للإجراءات والمحادثات، حيث يركز المراقب على محتوى ما هو
موضح، ويتم تحديد أهمية خطاب فرد ما في الحساب المكتوب، وليس في الحدث الشفهي
الفعلي نفسه، فهذا هو عمل الكلام لتحويل الفعل المنطوق إلى نص يتطلب من المراقب
الابتعاد عن النوايا العاطفية والعقلية للمتكلم، ويعطل التثبيت في الكتابة محتوى
الفعل المنطوق للزمان والمكان المشروطين للحالة المنطوقة، ولأن المتحدثين غير
موجودين فعليًا أو بشكل مشهدي، فإن لغتهم تصبح مجردة، وبالتالي فإن مضمونها يجعلها
ذات صلة بالعديد من المخاطبين، وعند هذه النقطة تتحول الإثنولوجيا إلى شكل من
أشكال الإثنوغرافيا، أو محاولة قراءة النص، واستخراج قواعده وفك معانيه وتقديم
النتائج لهذه العمليات في
النص الإثنوغرافي.
إن فكرة القدرة على قراءة الثقافة؛ كالنص وتفسير السلوك الاجتماعي
والمؤسسات والتقاليد على هذا النحو تعد أمرًا
مركزيًا، وقد أصبحت الألعاب اللغوية، والاستعارات والكلمات ذات صلة بالتحليل؛ فالمستوى
الأول من التفسير هو النظر إلى ما تم قوله، وإلى الأفراد الذين تمت دراستهم وفقًا لعالم
الاعراق، ثم يتم إخضاع النتائج لمستوى أعلى من التفسير الذي تلعب فيه أعمال
الإنشائية الشخصية، والخيال والانتقادات دورًا مركزيًا، وبشكل عام, فإن علماء
الاثنولوجيا يكتبون ويعملون على ترجمة الثقافات الأخرى لأعضاء الثقافة الخاصة بهم.
وكيفية وصف
العمليات التي اجرائها تعد سؤالًا مفتوحًا؛ فهي مسألة نقاش إلى أي مدى بالفعل حققت
دراسات الحالة الخاصة التي قام بها جيرتز نوعية ونوع للنهج تجاه الآخر، وتمثيل
الأجانب، الذي يمثله، ولكن ليس هناك أدنى شك في عواقب المنظورات الجديدة، مثل تطور
الوعي الأدبي والمنهجي والمعرفي الجديد في الأنثروبولوجيا الثقافية، مع النتائج
المثمرة للعلم، ومستوى انعكاسه.
إذا كان هناك
انقسام إشكالي بين الذاتية والموضوعية في عمل مالينوفسكي، وإذا حاول جيرتز أن ينصف
هذه الصعوبة مع الدائرة التأويلية، ستكون النتيجة بحدوث طلب على أصوات الآخر لتمنح
مساحة أكبر، وعندما يتحدث الآخر، فقد أصبح برنامجًا ذا توجه مهم في علم
الاثنولوجيا الدولية، ووفقًا لهذه التوجه، يجب على الآخر محاولة استعادة لغته
الخاصة من خلال التعبير عن شخصيته وتمثيله، ويصل مدى هذا المسعى إلى هجمات فرانز
فانون (ranz Fanon)السياسية الأصولية والطعون السياسية، فمن خلال تفكيك خطابات الهيمنة
الغربية التي ثبتت الآخر، والانتقادات التي تفعل الشيء نفسه، وصولًا الى الحق في
استجواب الصور الموثوقة من الثقافات الفردية كما قدمهتا الإثنولوجيا، ولقد ازدادت أعداد
ممثلي الأنثروبولوجيا الأصلية، ومع ذلك فإن أعمالهم لا تزال متجذرة إلى حد كبير في
الأنثروبولوجيا الثقافية الأنجلوسكسونية، وفي فترة السبعينيات والثمانينيات من
القرن الماضي، كان ما تم تشخيصه على أنه "أزمة في الموضوع" في علم
الإنسان، والذي سرعان ما أدى إلى "أزمة الموضوع"، والذي كان له أيضًا
آثاره على أولئك الذين أكدوا على حق الآخر في الكلام والاستماع إليه، فلا يمكن
اعتبار إمكانية الوصول إلى الثقافات الأخرى أمرًا مفروغًا منه، فقد واجهوا أيضا
مشكلات حادة تتمثل في تشكيل الهدف وتمثيل الآخر، فضلًا عن المسائل المتعلقة بذاتية،
وسيطرة عالم الأعراق.
المقاربة
المحاكية
اكتسبت المحاكاة
أهمية متزايدة في دراسة نهج الفرد للآخر، ولقد كان فريزر أول من لاحظ هذا في
الاثنولوجيا، وفي كتاب الغصن الذهبي، قال أنه يبدأ تفسيره بـالسحر المتعاطف من
خلال التفريق بين السحر المقلد على أساس قانون التشابه، والسحر المعدي استنادًا
إلى قانون الاتصال، وتعرف وظائفها على النحو الآتي، فيقول: "إذا قمنا بتحليل
مبادئ الفكر التي يقوم عليها السحر، فإنها ربما تجد لحل نفسها إلى نوعين؛ أولًا:
أن الشبيه ينتج الشبيه، أو أن تأثيره يشبه قضيته؛ وثانيا: أن الأمور التي كانت في
وقت واحد على اتصال مع بعضها البعض لا تزال تعمل على بعضها البعض على مسافة بعد
قطع الاتصال الجسدي، يمكن أن يسمى المبدأ السابق قانون التشابه، وهذا الأخير قانون
الاتصال أو العدوى. فمن أول هذه المبادئ؛ أي قانون التشابه، فالساحر يثبت أنه يمكن
أن ينتج أي تأثير يريده بمجرد التقليد، ويستوعب من الثانية يستوعب أن كل ما يفعله
لغرض مادي سيؤثر بشكل مساوٍ على الفرد الذي كان على اتصال مع الغرض، سواءً شكل جزءًا
من جسده أم لا.
ويمكن استخدام
المحاكاة في عالم السحر لممارسة السلطة على الآخر؛ فالتشابه هو الشرط الأساسي
لإنجاز عمل سحري ناجح، كما أنه يقوي العلاقة، التي أنشأها الساحر بين غرضين أو
حالتين أو اثنين من الأفراد، ويتحقق التأثير السحري على شيء ما عن طريق نسخه بشكل
فعال أو تمثيله، فالايمان بالسحر ضروري للعمل، ومع ذلك، فريزر كان من مخطأ في
التأكيد على التشابه في حد ذاته باعتباره حالة مركزية للآثار السحرية التي تم
إنشاؤها من خلال المحاكاة؛ فالتشابه في حد ذاته ليس مهمًا، فالمهم هو الصلة بين
التمثيل، وبين الشكل الذي يقوم عليه، وبعبارة أخرى، خلق علاقة بين العالمين، كما أن
ربط العالم الخاص بشكل محاكٍ إلى العالم الاخر تعد شكلًا من أشكال النهج تجاه
الآخر.
ويوضح تاوسيج
(Taussig) هذا الأمر عبر
تماثيل كونا، حيث جعل الكثير منها من خلال اللباس والمظهر، تبدو مثل المستعمرين من
ذوي البشرة البيضاء.
ويعد العمل
المحاكي لتمثيل المستعمرين البيض على شكل
التماثيل هو وسيلة للحد من حجمها، ومن طابعها المهدد؛ فالأداء السحري بعد ذلك مكن
الكونا من ممارسة السلطة على الرجال البيض الذين كانوا ينظرون اليها كإفراط في
السلطة، وهناك العديد من الأمثلة في الأدب من الأنثروبولوجيا الثقافية في كيفية
مقاربة الآخر من خلال التمثيل، إذ يمكن التعبير عن مشاعر الفرد ومواقفه تجاه الآخر
من خلال التمثيل، حيث ينتقل الآخر إلى عالم رمزي خاص، و يمكن لعلاقة الفرد أن
تتجسد به. فيظهر شيء ما في التمثيل الذي ربما لم يكن من السهل فهمه من قبل، مما
يخلق تمثيل للرجل الأبيض، وليس مجرد لتقليد له، بل بالأحرى، للدخول في عمل محاكاة
من أي شيء جديد قد ينشأ، فالعمل المحاكي ليس مجرد استنساخ، بل هو عمل إبداعي، كما
أن إنتاج الأشكال من الرجال البيض هو وسيلة للالتفاف علي أجنبيتها المتخفية وراء
تمثيل الآخر, وتتواجد العواطف مثل التهيج وانعدام الأمن، والرغبة في السيطرة على
مجهول فتان من خلال إبقائها داخل حدود العالم الرمزي للفرد كونها تمثل الرجال
البيض مثل الآخرين، فإن كونا لا يهتم بفهم الدوافع وراء سلوك الأفراد البيض، أو
قيم ورموز ثقافتهم،. إن اهتمامها بالأحرى هو للتعبير عن أهمية ومعنى البيض للكونا،
ويشكا العمل المحاكي المتمثل في إنشاء هذه التمثيلات للكونا طريقة لتخصيص البيض
مبدئيًا ورمزيًا، وهذا ينبع من حاجتها إلى توضيح علاقتها بهم.
تشكل العديد من أشكال التمثيل المختلفة تشكل نهجًا
محاكيًا تجاه الآخر، وليست النصوص والصور فقط هي التي تلعب دورًا مهمًا، ولكن أيضًا
الإيماءات والطقوس والألعاب والمقايضة تلعب دورًا في خلق التمثيل، فيتم الجمع بين
الذات وغيرها، وهنالك دائمًا جانب من الأداء لأي تمثيل للآخر؛ كتصوير شيء، أو رسمه
أو تجسيده، ولا تعتبر الطاقات المحاكية أن التمثيل مجرد نسخة من الأصل، ولكن كشيء
مختلف، يخلق عالمًا جديدًا. وكثيرًا ما يصور التمثيل مفهومًا آخر غير متطور للآخر،
ويصور الذي "لا يمكن تصويره"، وفي مثل هذه الحالات، تجد المحاكاة نفسها
تخترع شخصية تمثيلية؛ أي انها تخلق الشيء نفسه الذي يتم تقليده.
وفي العمليات
المحاكية، يتم سحب الأجنبي إلى منطق وديناميكية العالم الخيالي للفرد، ومن ثم
تحويله، كما التمثيل، فالآخر لا يتم بالضبط في الذات، لكنه يصبح شكلًا يختلط فيه
الذاتي والأجنبي، وتشكيل لما بينهما، إن خلق هذا يكتسب أهمية في اتصال الفرد مع
الآخر، ويمكن التمثيل المحاكي من عدم تثبيت أو دمج الأجانب، ولكن للحفاظ عليه في
تناقضه كشيء مألوف وغير معروف في آن معًا، وتعمل حركة المحاكاة كرقصة بين الأجنبي
وذاتية الفرد، فلا تستريح مع الذات، ولا مع المجهول، ولكن تتأرجح بينهما، أما
التمثيلات الأخرى فهي طارئة، ولا تحتاج إلى أن تكون الطريقة التي هي عليها، ولكن
يمكن أيضًا أن تكون ممثلة خلافًا لذلك، وبالتالي فإن الحركة المحاكية مفتوحة، فالتشكيل
الذي يخلقه يعتمد على حركة الخيال، وعلى السياقات الاجتماعية والرمزية، وليس هناك
شكل ضروري من أشكال التمثيل أو التشكيل، إذ يمكن تصور العديد من الأشكال المختلفة
وغير المتجانسة، وتعرف حركة المحاكاة أية أشكال من الرقص، وأي أشكال من اللعبة
سيتم اختيارها، وتعد محاكاة الآخر تجربة جمالية تنطوي على لعبة مع المجهول تتمكن
الذات من خلالها أن تتوسع.
وفيها، تمثل
ذاتية الفرد الآخر، فالمحاكاة حدث حسي
يمكن أن تنطوي على جميع الحواس. وهذا لا يعني السقوط أو الذوبان في الاجنبي،
بل هذا ينطوي على نوع مختلف من الجهد نيابة عن الذات، مما يعني مساواة الذات مع
الآخر؛ فمحاكاة الأجنبي ستؤدي إلى خسارة معينة للذات، وبالتالي، تشكل المحاكاة نهجًا
متزامنًا نحو الابتعاد عن المجهول، والبقاء في حالة من عدم الحسم بين (ما بين
الرقصة) على الحدود بين الذات والآخر؛ أي أن محاولة البقاء على أي من الجانبين
ستكون شكلا من أشكال التجاوز - سواءً من الذات، أو من الآخر - ووضع حد لحركة
المحاكاة.
إن مقاربة
المحاكاة لمجموعة أخرى بين نقيضين مثل سيلا ((Scylla، وتشاريبدس (Charybdis) بين التخلي عن الذات للآخر، واختزاله إلى الذات،
فمن ناحية، هنالك أوجه من إسقاطات حب الاجنبي xenophilia، ومن ناحية أخرى، اوجه بشعة من كراهية الأجانب ((xenophobia.
ويتجنب الجانبان الاتصال الحقيقي مع الآخر أو فحصه، ففي الحالة الأولى، يتم
التغاضي عن الاختلافات، أم في الثانية، الاختلافات غير مسموح بها. ولكن في كلتا
الحالتين، يتم التضحية بشيء ما، إما الذات، أو الأجنبي، فكلاهما لا يسمحان بعلاقات
أو اكتشافات جديدة، وعلى الأكثر، فان الزينوفيليا تسمح بتجربة أقل للآخر، كما ان
الفرد لا ينظر إلى أبعد من صورته للآخر ومشاعره ذات الصلة، ولا يسعى إلى الاتصال
بالأجانب خارج هذه الصورة، فهو يرفض أن يتعرض لتضارب النهج المحاكي، فإذا فشل
الآخر في الوفاء بتوقعات الفرد ورغباته، فإن جاذبيته المتوقعة قد تتحول بسرعة إلى
الرفض والعداء، ومن ثم تنتج المشاعر نفسها في الآخر، فتتطور دوامة من العداوة
المحاكية والعنف، ويتفاعل الجانبان في كراهية الطرف الآخر، مما قد يزيد من حدة
العنف من خلال ردود أفعالهم.
ومن أجل التغلب
على "الأزمة المحاكية"، يتم التماس كبش فداء لإلقاء اللوم عليه، ولجعله
ضحية، وفي معرض إبراز العنف المتأصل على كبش الفداء، يحاول المجتمع إعادة إنشاء
النظام الاجتماعي الذي تم كسره، فلا يمكن كسر الآليات الموجودة حتى ينظر إليها الأفراد
المعنيون، وحتى ذلك الحين، لا يمكن أن يكون هناك تفاهم، كما أن الإسقاطات والصور
المتعاضدة للكراهية تحد من الإدراك الدقيق، ومن الاتصال بالآخر وفحصه، والطريقة
الثانية لفقد الآخر هي الفشل في إدراك اختلافها، وهذا يعني أيضًا رفض السماح لذات
الفرد بأن يتعرض لعمليات محاكاة، ويبقى الفرق غير قابل للاحتمال، يرى الفرد في
الآخر، الذي يعرف مسبقًا إن استيعاب الذات للآخر يعد خطرًا باعتباره تهديدًا
لوجوده؛ فالسبيل الوحيد للخروج هو إما التقليل من شأن ذلك أو تدميره، وبالتالي
عرقلة إمكانية تقدم المحاكاة.
تعد المقاربات
المحاكية تجاه الآخر عملية متناقضة بشكل مستمر، فيمكنها أن تنجح وأن تكون مصدرًا
للإثراء الذاتي، أو أن تفشل وتؤدي إلى تدمير الذات وغيرها، و تتنوع طبيعة اتصال الفرد
مع الآخرين بين التحديد وعدم التحديد، فالمقاربات الناجحة، أو محاولات التعامل مع
الأجانب تعتمد على مدى تمكّن الفرد من تحمل الشعور بعدم الأمان عندما يواجه غيرية
الآخر، إذ أنه لا يجب اعتبار الذات أو غيرها وحدات مستقلة ذاتيًا أو منفصلة، بدلاً
من ذلك، يجب اعتبار تكون الأجنبي والمألوف في العلاقات المعقدة والمجزأة الخاصة
بها، وبسبب العمليات المزدوجة للتقليد والاختلاف، فإن هذه العلاقة المحاكية
تاريخية، وتحدد وفقًا لسياقات وأوقات معينة.
عولمة التعليم
إن توسع الاتحاد
الأوروبي الذي يشمل المزيد من البلدان الأوروبية يعني أن التعليم في أوروبا لا
يمكن النظر إليه ببساطة، باعتباره مشروعًا وطنيًا بل على أنه مهمة مشتركة بين
الثقافات، والسؤال الأساسي في هذا التطور هو مدى الاختلاف والتشابه الجغرافي
والإقليمي والوطني في التعليم والتدريب. فمن ناحية، هناك حاجة إلى الإبقاء على
الاختلافات الثقافية بين مختلف البلدان داخل أوروبا كوجه واحد للتعدد الغني للقارة،
ومن ناحية أخرى، تتطلب التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية في أوروبا الحاجة
إلى نهج مشترك.
وفي مواجهة
عولمة مجالات الحياة المهمة, وفضلاً
عن التكامل السياسي والاقتصادي والثقافي في جميع أنحاء العالم، فإن الحاجة إلى مثل
هذا النهج المشترك ملحة أكثر من أي وقت مضى، فعلى المدى الطويل، ستؤدي هذه
التطورات إلى زيادة حدة التوتر بين الوطني والعالمي، إذ يرى الأفراد أنفسهم على
نحو متزايد كأعضاء في قرية عالمية تتحمل مسؤولية مشتركة عن مصير الكوكب، ومع ذلك فإنهم
لا يرغبون في الوقت نفسه التخلي عن ارتباطهم بالسياق المحلي والوطني. فالقيم
المتضاربة والشعور بانعدام الأمن ستكون العواقب.
وفي الوقت
الحالي، يمكن التمييز بين اتجاهين متباينين في
إطار التنمية المجتمعية، ولكن في الوقت ذاته متشابكان بشكل لا ينفصل، وهما من
المتطلبات الأساسية لتشكيل التعليم داخل أوروبا؛ اتجاه واحد موجه نحو زيادة التفّرد،
والآخر نحو زيادة العولمة، وتعطي المجتمعات المتمايزة للغاية داخل أوروبا كل فرد
فرصة عيش حياته، ولكنها تفرض هذا الخيار في آن واحد على كل فرد. وتنطوي الظروف
المتعارضة للتنشئة الاجتماعية الحالية على هذا الشرط؛ فالذين يعيشون حياة فردية في
ظل ظروف اجتماعية، لا تخضع لسيطرة الفرد. وبالتالي، فإن المطلب هو تنظيم الحياة
الخاصة، مع توقع أن ينظم الفرد بنجاح تلك الحياة. فكل فرد يختار سيرة خاصة به،
ويخلق بنشاط حياته الخاصة، ويبنيها، ويتحمل المسؤولية عن نجاحها، وفي هذا
السيناريو، يلعب التقليد دورًا ثانويًا، فما هو متوقع مقرر ومحقق ذاتيًا.
بالإضافة إلى
ذلك، هناك أيضًا توتر بين الجميع والفرد، ويحتاج إلى تعديل في عمليات التعليم. فمن
ناحية، تؤثر العولمة على معظم مجالات المسعى الإنساني التي تخلق أوجه تشابه عبر
الحدود الثقافية، ومن ناحية أخرى، فإنه يشجع المقاومة ضد تسوية الخلافات تحت اسم
الفرد والتفرد والنزاهة، وأخيرًا، يوجه التعليم في القرن الحادي والعشرين إلى
الصراع بين التقليد، والحداثة أو ما بعد الحداثة، فكيف يمكن للفرد أن يبقى مفتوحًا
أمام التغييرات الآنية، وفي المستقبل دون أن يخون تقليده الثقافي الخاص؟ وكيف يمكن
أن ترتبط الديناميات التنموية المختلفة بعضها ببعض وتعديلاتها ضد الآخر؟ وما الدور
الذي تلعبه وسائل الإعلام الحديثة في هذا التطور؟
وقد أدت
التعددية الراديكالية لوجهات نظر العالم والمفاهيم التربوية إلى زيادة تعقيد الفكر
والعمل التربوي، مما أدى في أعقاب ذلك، وأكثر من أي وقت مضى، إلى زيادة انعدام
الأمن حول هدف التعليم والتنمية الفردية والمجتمعية. غير أنه لا يجب اعتبار انعدام
الأمن تهديدًا فحسب، إذ أنه يولد أيضًا الرغبة في التشكيك في قيمه ووجهات نظره،
وتصرفاته بطريقة أكثر انفتاحًا، وتؤدي الرغبة في التفكير في المعتقدات الأساسية للفرد
إلى مزيد من الانفتاح تجاه الآخر، نحو نماذج أخرى من التعليم، وطرق حياتية أخرى، وفي
العالم وفي الوقت الحاضر مع التطورات الجديدة للعولمة، وإضفاء الطابع الإقليمي
والتوطين، وهذا الانفتاح يكون أكبر تجاه الآخر، والأجانب وذا أهمية مركزية.
إن التغير
المجتمعي البطيء في الوقت الحاضر الذي يتسم بالعولمة هو عملية متعددة الأبعاد ذات
آثار اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، مما سيغير العلاقة بين المستوى العالمي
والمحلي والإقليمي والوطني، وعند النظر في هذه العملية، يمكننا تميز ما يلي على
أنه أهم التغييرات فيما يتعلق بالتعليم.
النقص في العمل
ينطبق هذا قبل كل شيء على الوظائف الأقل تأهيلًا،
وسيبقى النقص على الرغم من الآمال المرتبطة بتحول الصناعات الخدمية، فبالنسبة
للأعداد المتزايدة من الأفراد، فإن الصلة عميقة الجذور بين معنى الحياة ككيان
اجتماعي والعمل ستبقى قابلة للبقاء، غير أن هذا التغيير ليس هو التغيير الوحيد
الذي يواجهه الفرد، فالرابطة الثابتة بين العديد من البرامج التدريبية والوظائف
الخاصة سوف تنحل، حيث أن هناك اعترافًا متزايدًا بالمؤهلات الرئيسة وتشجيعها على
القدرة في التعاون والتفكير والابتكار، مترافقةً مع دافع التنفيذ، بالإضافة إلى
نقاط القوة في المجالات المشتركة بين الثقافات والإعلام، ونقل المعرفة في مجالات
محددة، سيتعين على التعليم أن يسهم بقدر أكبر في تطوير تلك الصفات التي تساعد على
تشكيل تلك المناطق التي تتزايد باستمرار خارج عالم العمل، ومن أجل إتقان الصلات
الأكثر تعقيدا من أي وقت مضى بين مجالات الحياة والعمل الناشئ عن العولمة، فهناك
حاجة إلى استثمار أكبر، وليس أقل في التعليم.
الحد من أهمية
الدولة القومية
إذا كانت الدولة القومية في العديد من مناطق
العالم هي الناقل الرئيس للثقافة والتعليم، فإن العولمة تؤدي اليوم إلى خفض عام
لأهمية الدولة القومية، وبالتالي إلى خفض الظروف التعليمية المتغيرة عمومًا، وهناك
أسباب متنوعة لفقدان سيادة الدولة القومية، منها: إن الأمة تزيد من تفويض صنع
القرار إلى الهيئات فوق الوطنية، كما أن هناك سبب آخر لفقدان السيادة، ألا وهو أن
التكتلات متعددة الجنسيات تضعف الدول القومية عن طريق اللعب ضد الآخر في هذه
العملية. فعلى سبيل المثال، يطورون منتجاتهم في بلدان ذات مستوى عالٍ من الدراية
التكنولوجية، ويصنعون المنتجات في البلدان منخفضة الأجور، ويدفعون الضرائب في
البلدان ذات المعدلات الضريبية المنخفضة، ومن خلال تدمير الوظائف في البلاد التي
تتواجد فيها الشركة ومن خلال تدابير توفير الضرائب، فان الشركة تزيد أعباءها على
الدولة من خلال زيادة تكاليف العاطلين الجدد باستمرار، في حين أن فقدان الضرائب
المدفوعة في الوقت نفسه يحد بشدة من قدرة الدولة على إنتاج الموارد المالية
اللازمة، وتسدد الاستراتيجية للشركات متعددة الجنسيات من حيث زيادة الأرباح، غير
أنه نتيجة لذلك، هناك نقص في الأموال المتاحة لمجالات التعليم والصحة، والرعاية
الاجتماعية.
وتؤدي العولمة
إلى التغلب على المسافات، وتجلب معها معرفة مناطق ثقافية واجتماعية بعيدة غير
معروفة سابقًا، ولم تُعد هذه هي الأراضي الفاصلة التي تشكل الدولة القومية، مع كل
حدودها والضوابط الحدودية، إذ يمكن لوسائل الإعلام الجديدة كالهاتف والتلفاز والحاسوب
أن تعبر مسافات شاسعة تقارب سرعة الضوء؛ فالفضاء آخذ في التقلص، وهناك حاجة الآن
إلى وسائل محدودة مالية وزمانية للتغلب على المسافة؛ فالصور، والكلمة المنطوقة،
والسياحة الجماعية كلها تجلب البعيد إلى المحيط القريب، كما أن النظام التقليدي من
الزمان والمكان، والبعيد والقريب، من الغريب والمألوف قد أصبح مدمرًا، نتيجة للخلطات
الجديدة، والشوائب التي يتم إنشاؤها، ولا يجب أن يتسم المجتمع العالمي بالتجانس
والبنى البسيطة، بل بالتعدد والاختلافات والتعقيدات، ويمكن تصوير كوكب الأرض على
أنه منزل البشرية في الفضاء، وهذه الصور راسخة بعمق في الخيال الأيقونية الداخلية
لدى الفرد، ومع ذلك هذه الصور لا تقول أن الأرض متجانسة اقتصاديًا أو ثقافيًا أو
سياسيًا ولا أنها في عملية لتصبح كذلك؛ فالعالم يوجد في الواقع العديد من المراكز
الثقافية والاقتصادية والسياسية العالمية، وهي تتواجد في السيناريوهات العالمية
المختلفة سواءً في المجالات التكنولوجية، أو المالية أو في الصور، أو الاتصالات أو
في وسائل الإعلام.
عولمة الأعمال
في الثقافات: يجب على الفرد
التخلي عن فكرة التعليم الخيالي بأنه شيء داخل حيز لوعاء محكم ومقلوب، ويغطى نفس
مساحة دولة ما، فالأصول المختلفة، والنهج وتركيز الثقافة تجعل من المنطقي تخيل
أنها متداخلة مع الترابط العالمي والإقليمي والمحلي؛ فمصطلح عولمة الأعمال، قد
صاغه رولاند روبرتسون (Roland Robertson)، ويعبر عن هذه الطبقية للعالمي مع المحلي،
وللكوني مع الخاص، حيث يتم إنشاء أشكال جديدة من المجاميع الثقافية والاجتماعية
التي تكون مستقلة إلى حد كبير، وهذا التداخل والترابط بين العناصر الثقافية
المتنوعة لا يخلق وحدة ثقافية مستقلة قائمة، بل يخلق تعددًا ثقافيًا مكثفًا في
ظروف الحياة خلال القرن المقبل، وكلما حاول الفرد تحديد موقع القواسم المشتركة،
كلما رأى التنوعات، ولكن من خلال تصور التنوع، على وجه التحديد، فمن المرجح أن
تظهر أوجه مشتركة، وبالتالي سيكون هناك مزيج جديد من العناصر الثقافية المختلفة،
والمهام الجديدة التي تواجه التعليم والمتواجدة في هذه العملية؛ كتطوير حسابات
جديدة للنقاط المرجعية الجديدة، والولاءات والتحالفات العالمية الجديدة. وقد طورت
الحركات الإيكولوجية وحركات السلام أشكالًا أولية للروابط العالمية جنبًا إلى جنب
مع الإجراءات المقابلة من جانب شرائح من السكان.
وتسود اليوم
عمليات العولمة في جميع مجالات
الحياة، وقد زادت من تعقيد العوالم الحياتية، والطرق التي يعيش بها الأفراد، فهذه
العمليات ذات تأثير على جيل الشباب من خلال وسائل الإعلام الجديدة، وسُبل التواصل
الجديدة، والسوق العالمية؛ فهي تجعل تأثيرها مستشعرًا عبر كل الاختلافات الثقافية،
مهما كانت كبيرة على الرغم من أن ما تحققه هو تشابه وليس تماثل، وستكون هناك
مقاومة ضد محاولة اختزال التشابه إلى التماثل من أجل سلسلة من الخلافات، وضمن هذا
الإطار يمكن للفرد السعى لتبرير الحفاظ على قيمة سلامة وتفرد خاصة، وفي ضوء هذا
التطور، يتعين على التعليم أن يشغل نفسه بصورة متزايدة لدعم الشباب في تلبية
المطالب التي تطورت من التوسع الهائل للمعرفة، ومساعدتهم على تكريس قدراتهم
الشخصية من خلال المعرفة والتجربة والخبرة. وبالتالي، سيكونون أكثر قدرة على
التعامل مع التعقيدات المتزايدة للحياة، وأكثر قدرة على تنظيم واتخاذ القرارات
بشأن حياتهم الخاصة، وفي هذه الحالة، فإن من أصعب المهام في مجال التعليم موازنة
الطلب على تكافؤ الفرص، والحاجة إلى المنافسة؛ فتكافؤ الفرص يجلب معه الطلب على
الموارد الخاصة من أجل دعم الأطفال المحرومين اجتماعيًا، في حين أن الدعم اللازم
للحياة تطلب من المجتمع التنافسي تطوير المهارات اللازمة لتأكيد الذات، ويهدف
الأول إلى تطوير التضامن، في وقت لاحق في الفردية. وكثيرًا ما ينظر إلى هذين
الهدفين على أنهما يستبعد أحدهما الآخر، مما لا يسمح بإدخال أية مبادلات بسيطة.
سيناريو
المستقبل؟ زيادة
الفردية والعولمة: في الوقت الحاضر، يمكن التمييز بين اتجاهين رئيسيين في إطار
التنمية المجتمعية، وهما اتجاهين متناقضين،
ولكن في الوقت نفسه متشابهين بشكل كبير، وهما من المتطلبات الأساسية لتشكيل
التعليم وهما: اتجاه موجه نحو زيادة الفردية، وآخر نحو زيادة العولمة، وفي العديد
من أنحاء العالم، تتيح العديد من المجتمعات المتمايزة للغاية لكل فرد فرصة عيش
حياته الخاصة، ولكنها تفرض هذا الخيار في آن واحد على كل فرد؛ فالظروف المتناقضة
للتنشئة الاجتماعية الحالية موجودة في هذا المطلب، إذ أن كل فرد يفترض أن يعيش
حياة فردية في ظل ظروف اجتماعية، لا تخضع لسيطرة الفرد، وبالتالي، فإن المطلب هو
تنظيم الحياة الخاصة، مع توقع بأن ينظم الفرد حياته بنجاح، وفي هذا السيناريو،
يلعب التقليد دورًا ثانويًا، فما هو متوقع هو تقرير المصير، وتحقيق الذات.
ولقد أصبحت
القدرة على التفكير واتخاذ القرارات من أهم الصفات للطريقة التي ينظم الفرد بها
حياته والقرارات التي يتخذها؛ فالحياة في الوقت الحاضر ولكثير من الأفراد، هي حياة
عالم مادي دون الإشارة إلى السمو، وكل فرد مسؤول بشكل منفرد عن الصعوبات الناشئة
عن وضعه الخاص، وعن أية أخطاء في التعامل معها.
ومن ناحية أخرى،
يزداد نمو العمليات الفردية من خلال عمليات العولمة. والنتيجة علاقة متبادلة، فقد
أصبحت الأشكال الحالية لزيادة تفرد الفرد ممكنة من خلال عمليات العولمة، غير أن
عمليات العولمة بدورها تتطلب نموًا وتكثيفًا في الازدواجية الثنائية، كما أن
المتطلبات التي تفرضها هذه العمليات في العولمة والتفرد تؤثر تأثيرًا مستدامًا
ودائمًا على التعليم والتنشئة الاجتماعية للأطفال والمراهقين، وتتنوع الطرق
والنواحي الناجمة عن ذلك، وكذلك الآثار الجانبية غير المقصودة للعمليات التعليمية.
الفضول والأجانب
في التعليم الحالي: في
إطار العمليات الاجتماعية والثقافية التي تخلقها العولمة، يكتسب الاتصال والمواجهة
مع الأجانب أهمية متزايدة أكثر فأكثر. فكما تم الإشارة سابقا، فإن النجاح أو الفشل
في التعامل مع الأجانب يعد عاملًا حاسمًا في تحديد نوعية الحياة، وبقدر ما يفترض
بالتعليم أن يُعد الجيل القادم لتحديات الحياة في ظل الظروف الاجتماعية التي هي في
طور التغيير على الصعيد العالمي؛ فالمناقشة الأكثر حدة مع مفهوم الأجنبي، والأجانب
تنتمي إلى إحدى المهام التي تكتسب أهمية متزايدة في مجال التعليم، ولكن ما هو
الأجنبي، وما هو المألوف؟ وأين تكمن القواسم المشتركة والتنوع عندما يتم اعتبار
شيء ما أجنبي أو غير أجنبي؟
إن المهمة الرئيسة
للتعليم هي إيقاظ الفضول فيما يتعلق بالأجانب، والحفاظ عليه دون التضحية به لمجرد
المعرفة السطحية، فهذا هو الشرط الأساسي لجعل اللقاء مع الأجانب أكثر إثراءً، وأقل
تهديدًا، ومن أهم المهام الأكثر صعوبة التي تواجه التعليم هي كيفية تشجيع الاهتمام
بالمجهول، وتطوير أساليب التعلم الاستدلالي، فعندما يتم التخطيط للإصلاحات في مجال
التعليم، يجب أن يؤخذ في الاعتبار الاختلافات في قيمة التدابير التي تحققت على
المدى الأطول، أو الأقصر؛ لأن ما هو فعال في الأجل القصير كثيرًا ما يكون غير فعال
على المدى الطويل، والعكس بالعكس. ومن ثم، يجب النظر إلى التعليم من منظور التعلم
طويل الأمد، الذي يجب تخطيطه وتطبيقه وفقًا لذلك، وهذا ينطوي على تطوير مجموعة
متنوعة من أشكال التعلم.
التوترات
والمعضلات في التعليم:
يتأثر التعليم اليوم بالتوترات المختلفة، وتشكل الصراعات والمعضلات:
1 - ستزداد التوترات بين الصعيدين المحلي والعالمي على المدى الطويل،
حيث ينظر الأفراد تدريجيًا إلى أنفسهم كأفراد في قرية عالمية تتحمل مسؤولية مشتركة
عن مصير الكوكب، ولكنها في الوقت نفسه لا ترغب في التخلي عن الارتباط بالسياق
المحلي والوطني.
2 - يتعين إعادة تكييف التوتر بين الجميع والفرد في عمليات التعليم
أيضًا، وبدلًا من التوجه نحو عولمة الحياة التي تقتصر على مجالات؛ كالاقتصاد
والسياسة، فإن هذه العملية تجري أيضًا في إطار الثقافة والتعليم، فمن ناحية، تؤثر
العولمة على معظم مجالات المسعى الإنساني التي تخلق أوجه تشابه عبر الحدود
الثقافية، ومن ناحية أخرى تشجع المقاومة ضد تسوية الفروق باسم الفرد وتفرده.
3 - سيوجه التعليم في القرن المقبل إلى الصراع بين التقليد والحداثة
أو ما بعد الحداثة، مع طرح أسئلة مثل: كيف يمكن للفرد أن يبقى منفتحًا أمام
التغييرات في الحاضر والمستقبل دون أن يخون تقاليده الثقافية الخاصة؟ وكيف يمكن أن
ترتبط الديناميات التنموية المختلفة بعضها ببعض؟ وكيف يستطيع أن يعدل كل منها
الآخر؟ وما الدور الذي ستلعبه وسائل الإعلام الحديثة في هذا التطور؟
4 - هناك توتر متزايد بين الاعتبارات الطويلة وقصيرة الأجل، فما يكون
منطقيًا من منظور قصير الأجل قد يكون خاطئًا عندما يُنظر إليه من منظور طويل الأجل،
وستندرج العديد من التخفيضات المالية في التعليم ضمن هذه الفئة.
5 - وفي إطار الإصلاحات التعليمية، لا يمكن التغلب على التوتر بين
الحاجة إلى المنافسة والاهتمام بتكافؤ الفرص من مرة واحدة وإلى الأبد، فجميع
الحلول المقدمة هي مجرد تبسيط للمشكلة، وفي إطار التعلم مدى الحياة، هناك حاجة
لتحقيق التوازن بين القوى الثلاث من المنافسة، التعاون والتضامن.
6 - يؤدي التوسع غير العادي للمعرفة إلى التوتر بين نفسه، وبين قدرة
البشر على استيعابها، ولذلك يجب على النظام التعليمي أن يدعم الشباب لمساعدتهم في
مواجهة التحديات المتأصلة في اكتساب المعرفة الجديدة، فضلًا عن مساعدتهم على تطوير
كفاءتهم الشخصية.
7. هناك توتر بين الروحية والمادية في حال إذا كان التعليم يمكنه أن
يوازن بين الصراع المحتمل بين الروحية والمادية، ويمكنه أن يساعد الشباب على نحو
كافٍ لإعداد أنفسهم للعيش في المجتمعات الحديثة، أو في تلك متأخرة الحداثة.
ويجب أن يكون
الهدف من التعليم تمكين الشباب من موازنة هذه التوترات في حياتهم، والمساهمة في
مستقبل البشرية المشترك، ويحتاج التعليم إلى اعتباره كعملية للتعلم طويلة الأمد،
وكقيمة في حد ذاته، وعلى الرغم من أن التعليم يجب أن يقبل التحديات الناشئة عن
التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإنه لا يجب أن يقتصر على تلك
التحديات، وعلاوةً على ذلك، يتعين على التعليم مقاومة الاقتصاد في الميدان
التعليمي، وتشجيع الوعي بأن التعليم هو أكثر من مجرد اعتبارات اقتصادية، فمن خلال
التعليم، يحتاج الشباب إلى الاستعداد للتنوع، وعدم التجانس الموجود في مختلف مناطق
العالم.
التعلم: هو الكنز الداخلي، وفي هذا الوضع الذي يتسم بالتعقيد المجتمعي
والتعليمي المتنامي، وقد قدمت اليونسكو تقريرًا عن التعليم في القرن العشرين، يرسم
أربعة أركان للتعلم، وهي: تعلم المعرفة، وتعلم الانجاز وتعلم العيش معا والتعلم
لنكون، حيث يجب أن يستند التعلم إلى العيش مع الآخرين جنبًا إلى جنب، وأن يساعد
على تشكيل حياة جماعية بناءة بروح السلام والعدالة الاجتماعية. ويجب تشجيع التفاهم
المتبادل، وتعزيز المهارات اللازمة لتكوين حياة الفرد بصورة مثمرة، مما له أهمية
خاصة بين أنواع المعرفة العديدة، والمعرفة العلمية المطلوبة لتشكيل التغيير
المجتمعي، إذ ينبغي تشجيع تطوير الكفاءة للعمل في مختلف المجالات المجتمعية.
وبالتالي، توجه هذه المطالب إلى المهارات والاحتياجات الخاصة للأفراد، وصحتهم،
وذكرياتهم، وتفكيرهم، وخيالهم، وجمالياتهم، قدراتهم التواصلية.
كما يجب أن يسهم
هذا التعلم في مفهوم التعليم المتعدد الأبعاد، وتجنب اقتصادية التعليم،
وهذا هو المنظور المهيمن في استعراض التعليم الذي ما يُشار إليه غالبًا باسم
الليبرالية الجديدة للمجتمع الرأسمالي العالمي.
وقد وضعت آمال
كثيرة على تحسين المفاهيم الرئيسة لتقرير اليونسكو عن مجتمع التعلم والتعلم طويل
الأمد للجميع، مع إجراء التعديلات اللازمة في شكل ومضمون القدرات والإمكانيات
الفردية. اذ يجب أن يكون التعلم مرتبطًا بالأفراد الذين يعيشون معًا، ويسهمون في
تشكيل هذا البناء بناء على روح السلام والعدالة الاجتماعية، كما يجب أن يكون الهدف
هو تحسين التفاهم والمهارات المتبادلة من أجل تطوير سلوك حياتي يكون أكثر إنتاجية.
ومن هذ المنطلق، فإن العلوم الإنسانية ومعرفتها تكتسب أهمية مركزية في تحقيق هذه
الأهداف وفي إصلاح التعليم والمجتمع، كما أن هناك حاجة لتطوير الكفاءة في العمل
الاجتماعي في مختلف المجالات الاجتماعية، ويجب أن يركز التعليم على تحسين الذاكرة،
والتفكير، والخيال، والصحة، ومهارات الاتصال والاحتياجات والقدرات الخاصة للموضوع
الاجتماعي الفردي.
وبالنظر إلى
وجود (900) مليون أمي و (130) مليون طفل لا يملكون فرصة للانخراط في المدرسة، هناك
حاجة إلى بذل المزيد من الجهود لتحسين التعليم الأساسي دون الحد من التعليم
الثانوي والجامعي، ولا بد من زيادة الجهود الدولية لمساعدة البلدان الفقيرة على
توسيع نطاق التعليم ونوعيته. ويعتمد النجاح في إدخال الإصلاحات التعليمية على
الالتزام الذي أبدته المجتمعات - بما في ذلك الآباء والمعلمين ومديري المدارس،
وعامة الجمهور والمجتمع الدولي. كما يشدد التقرير على أن نجاح الإصلاحات التعليمية
واللامركزية، والمشاركة النشطة للمعلمين أمران حاسمان.
ويوصي تقرير
المجتمع الدولي باتخاذ الخطوات الآتية:
- تثقيف النساء والفتيات بالمساواة،
- تقديم ربع المساعدات الإنمائية المقدمة من المنظمات الدولية كدعم في
مجال التعليم،
- عدم السماح بتخفيض الديون، والائتمانات، إذا تم تخفيض التمويل لقطاع
التعليم،
- إدخال تكنولوجيا المعلومات الحديثة في جميع أنحاء العالم،
- زيادة الاهتمام بالمنظمات غير الحكومية من أجل التعاون الدولي.
ويتألف تقرير اليونسكو للجنة ديلور (Delor ) من الفصول الآتية؛
والتي تشير عناوينها إلى طبيعة البرنامج الذي تقترحه:
- من المجتمع المحلي إلى المجتمع العالمي: يؤثر الترابط العالمي
والعولمة تأثيرًا قويًا على الحياة اليومية لمعظم الأفراد. وهذا الوضع يشكل تحديًا
للثقافة والتعليم والمجتمع، فهناك خطر من أن تتزايد الفجوة بين الأقلية من البشر
الذين يستطيعون تشكيل هذه الظروف الحياتية الجديدة بشكل إبداعي، وغالبية البشر
الذين لا حول لهم ولا قوة فيما يتعلق بهذه الابتكارات، وأخيرًا، هناك حاجة إلى
تحسين التفاهم المتبادل والمسؤولية والتضامن، الذي يمكن للتعليم الاسهام فيه.
- من التماسك الاجتماعي إلى المشاركة الديمقراطية: يجب أن تأخذ
السياسة التعليمية منظورًا واسعًا؛ حيث يجب ألا تسهم في الاستبعاد الاجتماعي
للأفراد والمجموعات السكانية، وينبغي أن يجمع التعليم من ناحية المطالب المجتمعية
والآخر، وحق الفرد في التنمية الشخصية، ولا يمكن للتعليم أن يحل المشكلات
المجتمعية المركزية، ولكن يمكن أن يساعد على التعامل معها بشكل أفضل، ولا تستطيع
المدارس الإيفاء بمهامها المجتمعية إلا عندما تسهم في تعليم الأقليات، كما يجب أن
يكون تعليمًا يطور الديمقراطية، والمواطنة والسلوك المدني في جميع المدارس، حيث أن
الطلبة في المدرسة يمكنهم تعلم السلوك الديمقراطي، بما في ذلك فهم الآخر، وكيفية
اتخاذ الأحكام المؤهلة. فيجب على التعليم مساعدة الطلبة والبالغين في تطوير الثقافة والشروط الأساسية اللازمة
لهيكلة المعلومات، وفهم سياقها التاريخي.
- من النمو الاقتصادي إلى التنمية البشرية. هناك حاجة إلى مفهوم جديد
للتنمية يولد إطارًا يمكن في ظله مراعاة ظروف المعيشة الفعلية على نحو أفضل، ويلزم
إجراء مزيد من البحوث بشأن مستقبل العمل والتغيرات في عالم العمل الناجمة عن
التطورات التكنولوجية. كما يلزم إعادة النظر في العلاقة بين سياسات التنمية
والتعليم وتحسينها. ويلزم بذل مزيد من الجهود من أجل توسيع وتحسين التعليم الأساسي
في جميع مناطق العالم.
- الركائز الأربع للتعليم. الأركان الأربعة للتعلم هي: المعرفة، وتعلم
الانجاز، وتعلم للعيش معًا، وتعلم كيف يجب أن تؤدي إلى تعليم مركز أفضل وعام،
فهناك حاجة إلى المزيد من تطوير المهارات التي تمكن الأفراد من العمل على نحو
ملائم في مختلف الظروف المحلية والإقليمية والدولية، وينبغي تطوير الاحترام
المتبادل، والقدرة على التعاون الكفؤ، وبالتالي وجود حاجة مصاحبة لأنواع مختلفة
كثيرة من المعرفة، وطرق التعلم والعمل في النظام التعليمي.
- التعلم طويل الامد: لابد من وضع استراتيجيات للتعلم طويل الأمد نظرًا
لزيادة الكفاءة المتوقعة للموضوع الاجتماعي، وهذا يستلزم بدوره وضع برامج
واستراتيجيات ملائمة داخل مجتمع التعلم.
- من التعليم الأساسي إلى الجامعة: إذ ينبغي تركيز الجهود العالمية في
مجال التعليم على المهارات التعليمية الأساسية مع إيلاء اهتمام خاص للتعليم
الابتدائي، وتعليم القراءة والكتابة والحساب، فمن شأن هذا الاهتمام العالمي
بالتعليم الأساسي أن يأخذ في الاعتبار الظروف الخاصة لمختلف البلدان والسكان،
وعلاوة على ذلك، ستبقى هناك حاجة إلى برامج القراءة والكتابة للأميين للمساعدة في
نقل المعرفة العلمية الأساسية، والحاجة الى مناهج أفضل، ويتعين تحسين نسبة الطلبة
إلى المعلمين أو تعويضهم عن طريق طرق تكنولوجيا التدريس الجديدة، وفي سياق التعلم
طويل الأمد، يجب إعادة النظر في التعليم الثانوي، مع الاستعانة بالمشورة التعليمية
للمساعدة في تحسين الفرص التعليمية والعدالة الاجتماعية، أما على مستوى التعليم
العالي، فيجب أن تكون الجامعات قادرة على تدريس المعارف المحددة المطلوبة للحياة
الاجتماعية والاقتصادية في الوقت الحاضر، بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكون مجهزة جيدًا
بما فيه الكفاية لإعداد الطلبة للمهن الجامعية، ويجب أن تكون الجامعات مفتوحة
لجميع من يلبي متطلبات القبول، وعلى المستوى الجامعي، يجب أن يكون هناك تعاون دولي
أكبر، ولكن يجب أن تحتفظ كل جامعة باستقلاليتها في التدريس والبحث، وعلى مستوى
التعليم الثانوي والجامعي، يجب أن تكون هناك مجموعة كبيرة ومتنوعة من البرامج
المتاحة.
- المعلمين في البحث عن وجهات نظر جديدة: يجد المعلمون أنفسهم، وفي
كثير من مناطق العالم محرومين اقتصاديًا واجتماعيًا، ويحتاج كل من هذين الجانبين
إلى تغيير لكي يتمكن المعلمون من الوفاء بمهمتهم المجتمعية المهمة، فهناك حاجة إلى
التعاون بين مختلف مواقع التعلم والأفراد المؤهلين بشكل مختلف لتحسين مجموعة
متنوعة من عمليات التعلم والتعليم في مختلف المجالات المجتمعية، وبما أن نتائج
التعليم تعتمد إلى حد كبير على نوعية المعلمين، فإن هناك حاجة إلى التدريب المستمر
أثناء الخدمة، كما أن التبادل الوطني والدولي للمعلمين يمكن أن يساعد بشكل كبير
بطريقتين؛ وهما: مساعدة الطلبة على التكيف بشكل أفضل مع مطالب المجتمع اليوم
وتحسين الشعور بالتضامن بين الأجيال.
- خيارات التعليم؛ العامل السياسي: تؤثر جودة النظام التعليمي على
توجهات المجتمع ونوعيته، وبالتالي هناك حاجة إلى مناقشة عامة بشأن القضايا
التعليمية التي تشمل صناع القرار، وتحسين نوعية المؤسسات التعليمية من خلال
اللامركزية والاستقلالية النسبية، فيجب أن تبقى الدولة والمجتمع مسؤولين عن
التعليم بتمويل من الدولة والشعب، كما أن الدعم الخاص أمر مطلوب، ولكن لا يمكن في
حد ذاته أن يحل محل الدولة أو المجتمع، ويجب أن يأخذ في الاعتبار تمويل التعليم من
منظور طويل الأمد؛ فالتقنيات التعليمية توفر إمكانيات أكثر مما هي في الوقت الحاضر
في الاستخدام.
- التعاون الدولي؛ تثقيف القرية العالمية: هناك حاجة اليوم إلى التعاون
الدولي في ميدان التعليم؛ فالاستثمارات في التعليم هي استثمارات في مستقبل المجتمع؛
ويجب أن يكون هناك دعم إيجابي صريح للفتيات والنساء في مجال التعليم، وكما ينبغي
تطوير وسائل تكنولوجيا المعلومات الجديدة وتحسينها، ويجب أن يكون أحد أهداف
التعاون الدولي هو تدويل المناهج الدراسية، واستخدام التكنولوجيا الجديدة، كما يجب
أن تتعاون المنظمات غير الحكومية من أجل تحسين التنمية التعليمية.
إن الهدف هنا ليس تقديم استعراض نقدي مفصل لتقرير اليونسكو للجنة
ديلور بشأن مستقبل التعليم، بل الهدف هنا طرح بعض الأسئلة التي قد تكون بمثابة
نقطة انطلاق لنقد أكبر، ويفهم هذا النقد على أنه محاولة لتحسين أهمية التقرير
بالنسبة للتعليم والتعلم في مختلف أنحاء العالم، ومن هذه الأسئلة ما يأتي:
- إلى أي مدى يفي التقرير بعزمه على خلق منظور عام للتنمية الإنسانية
على أساس التعلم والتعليم؟
- أليس التقرير نفسه - على الرغم من المساهمات من أجزاء مختلفة من
العالم في خاتمته – منحاز أوروبيًا، ويحتاج إلى مزيد من التفصيل ليكون ذا صلة
بالتخطيط والممارسة التعليمية في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية؟
- هل الطابع العالمي للتقرير يقلل من علاقته بمناطق مختلفة من العالم،
وإلا يمكن أن يكون تقرير أكثر تحديدًا إقليميًا لمساعدة أفضل في تحسين التعليم
والمدرسة؟
- أليست الافتراضات الفلسفية والأنثروبولوجية الكامنة حول مدى ملاءمة
البشر متفائلة جدًا؟ وأليس هذا الرأي المتفائل نفسه عائقًا للعمل التعليمي العملي؛
لأنه يميل إلى إعطاء الممارسين إدراكًا سيئًا، والذي بدوره قد يشل الطاقة
المبتكرة؟
إن من يهتم بالتعليم في القرن القادم، كما هو الحال في تقرير
اليونسكو، يعرض خطر الإفراط في التأكيد على الجانب الطوباوي من التفكير والقيام
بالتعليم، كما أن الأمل المتفائل في قابلية الشباب للتحول يغير طبيعة واقعهم، فهو
واقع يتسم بالتساوي والمقاومة، وقد أظهرت عدد كبير من الإصلاحات التربوية أن
الشباب ليسوا مستعدين أن يقودوا أنفسهم في الاتجاه الذي يعتقد الجيل الأكبر سنًا أنه
مناسب لهم.
وبالإضافة إلى
ذلك، فإن مشكلة الآثار الجانبية التعليمية غير المرغوب فيها تؤكد أن الفجوة بين
هذه الآمال الطموحة، ورغبات وواقع الممارسة التعليمية لا يمكن التغلب عليها تمامًا؛
فالنظرية والممارسة التربوية ستواجهان هذا التناقض الابدي لأنه يكمن في قلب الوجود
الإنساني.
تعليقات
إرسال تعليق