نظريــات سوسيولوجيـــا التربية

 

يمكن الحديث عن مجموعة من التيارات والنظريات والمدارس والاتجاهات ضمن سوسيولوجيا التربية،  ويمكن حصرها في مايلي[1]:

 

المبحث الأول: النظريـــة الوظيفيـــة الكلاسيكيـة

تنبني المقاربة الوظيفية على تشبيه المجتمع بالكائن العضوي الحي. بمعنى أن المجتمع يتكون من مجموعة من العناصر والبنيات والأنظمة. وكل عنصر من هذه العناصر يؤدي وظيفة ما داخل هذا الجهاز المجتمعي. وبهذا، يترابط كل عنصر في النسق بوظيفة ما. ومن ثم، فالمجتمع نظام متكامل ومترابط ومتماسك، يهدف إلى تحقيق التوازن والحفاظ على المكتسبات المجتمعية. وبالتالي، يقوم الدين والتربية - مثلا- بالحفاظ على توازن المجتمع.

وخير من يمثل هذه المقاربة الفرنسي إميل دوركايم، والأمريكيان تلكوت بارسونز (Talcott Parsons)[2] وروبرت ميرتون(R.Merton) [3]على سبيل التمثيل.  وقد كان لهذه النظرية إشعاع كبير في سنوات الخمسين من القرن الماضي.

ويعني هذا أن النظرية الوظيفية تعتبر "  المجتمع نظاما معقدا تعمل شتى أجزاؤه سويا لتحقيق الاستقرار والتضامن بين مكوناته.ووفقا لهذه المقاربة، فإن على علم الاجتماع استقصاء علاقة مكونات المجتمع بعضها ببعض وصلتها بالمجتمع برمته.ويمكننا على هذا الأساس أن نحلل، على سبيل المثال، المعتقدات الدينية والعادات الاجتماعية، بإظهار صلتها بغيرها من مؤسسات المجتمع؛ لأن أجزاء المجتمع المختلفة تنمو بصورة متقاربة بعضها مع بعض.

ولدراسة الوظيفة التي تؤديها إحدى الممارسات أو المؤسسات الاجتماعية، فإن علينا أن نحلل ما تقدمه المساهمة أو الممارسة لضمان ديمومة المجتمع.وطالما استخدم الوظيفيون، ومنهم كونت ودركايم مبدأ المشابهة العضوية للمقارنة بين عمل المجتمع بما يناظره في الكائنات العضوية.ويرى هؤلاء أن أجزاء المجتمع وأطرافه تعمل سويا وبصورة متناسقة كما تعمل أعضاء الجسم البشري، لما فيه نفع المجتمع بمجمله.وليتسنى لنا دراسة أحد أعضاء الجسم، كالقلب على سبيل المثال، فإن علينا أن نبين كيفية ارتباطه باعضاء الجسم الأخرى ووظائفه.وعند ضخ الدم في سائر أجزاء الجسم، يؤدي القلب دورا حيويا في استمرار الحياة في الكائن الحي.وبالمثل، فإن تحليل الوظائف التي يقوم بها أحد تكوينات المجتمع يتطلب منا أن نبين الدور الذي تلعبه في استمرار وجود المجتمع ودوام عافيته."[4]

ومن هنا، تنبني النظرية الوظيفية على مجموعة من المبادىء والمفاهيم الأساسية، مثل: الوظيفة، والبناء الاجتماعي، والمشابهة العضوية، والنسق، والدور والمكانة الاجتماعية، والمتطلبات الوظيفية، والبدائل الوظيفية، والمعوقات الوظيفية، والوظائف الظاهرة والوظائف الكامنة، والجزء في خدمة الكل، والتضامن العضوي، والمحافظة والاستقرار، والنظام والتوازن،  والأدوار الحيوية، والاتساق والانسجام، والتماسك الاجتماعي مقابل مبدإ التجزئة والصراع..

وعليه، إن " المدرسة الوظيفية تشدد على أهمية الاجتماع الأخلاقي في الحفاظ على النظام والاستقرار في المجتمع. ويتجلى الإجماع الأخلاقي هذا عندما يشترك أغلب الناس في المجتمع في القيم نفسها.ويرى الوظيفيون أن النظام والتوازن يمثلان الحالة الاعتيادية للمجتمع، ويرتكز التوازن الاجتماعي على وجود إجماع أخلاقي بين أعضاء المجتمع.إن دوركايم، على سبيل المثال، كان يعتقد أن الدين يؤكد تمسك الناس بالقيم الاجتماعية الجوهرية، ويسهم بالتالي في صياغة التماسك الاجتماعي.

وربما كان التفكير الوظيفي يحتل مكانة الصدارة بين التقاليد النظرية في علم الاجتماع لوقت طويل، ولاسيما في الولايات المتحدة.وكان تلكوت بارسونز وروبرت ميرتون، وقد نهل كلاهما من أفكار دوركايم، أبرز الداعين إلى هذا التيار، غير أن الشعبية التي كانت تتمتع بها المدرسة الوظيفية قد مالت إلى الأفول في الآونة الأخيرة، بعد أن اتضح ماتعانيه من أوجه القصور والثغرات.ومن جملة ما يوجه لها من انتقادات أنها تغالي في التشديد على العوامل المؤدية إلى التماسك الاجتماعي على حساب العوامل الأخرى التي تفضي إلى التجزئة والصراع.إن التركيز على نواحي الاستقرار والنظام يعني التقليل من أهمية التقسيمات والتفاوتات التي تنشأ في المجتمع على أساس الطبقة والعرق والجنس.كما أن الوظيفيين يميلون إلى التقليل من دور الفعل الاجتماعي الخلاق في المجتمع.ويرى كثير من النقاد أن التحليل الوظيفي يسبغ على بعض المجتمعات صفات اجتماعية لاتوجد فيها.ذلك أن الوظيفيين كثيرا ما يقولون: إن للمجتمع حاجات، وإن له أهدافا على الرغم من أن هذه المفاهيم لاتصدق إلا على الأفراد من البشر.[5]"

ومن جهة أخرى، يستند الاتجاه الوظيفي إلى التجربة العقلية، واستخدام المنهج المقارن كما وكيفا، وملاحظة النتائج المترتبة على حدوث الاضطرابات في المجتمع وتحليلها.

ومن أهم الانتقادات الموجهة إلى هذا الاتجاه أنه تيار إيديولوجي محافظ، يهدف إلى خلق مجتمع منظم ومتناسق ومتماسك ومستقر اجتماعيا، يخلو من الصراع والتناقضات الجدلية.لذا، يعتبر النظام أو التوازن أو الاستقرار الهدف المنشود الذي يسعى إليه هذا الاتجاه السوسيولوجي. وفي هذا، تقول وسيلة خزار:" يجمع النقاد على الطابع الإيديولوجي المحافظ للاتجاه البنائي الوظيفي، والذي يتضح بجلاء في قيامه على مسلمة أساسية تتمثل في وحدة وترابط أجزاء النسق ووظائفه، وفي تأكيده المبالغ فيه لأهمية التكامل والتوازن والاستقرار داخل المجتمع، هذا فضلا عن اعتماده الكبير على تشبيه المجتمع الإنساني بالكائن الحي، حتى أصبحت صحة المجتمع مرادفة للنظام، ومرضه مرادفا للصراع.لقد حاول الاتجاه البنائي الوظيفي بكل جهة أن يلغي فكرة وجود تناقضات داخل الأنساق الاجتماعية، ولما بات ذلك من المستحيل وغير المقنع، نظرا إلى عدم القدرة على إغفاله في واقع الحياة، تبنى الكثير من أصحاب هذا الاتجاه مبدأ وجوده على أنه حالة استثنائية تعبر عن مرض اجتماعي، مع التأكيد أن التوازن والتكامل هما الحالة الطبيعية التي تمثل النموذج الأمثل للنظام."[6]

ومن هنا، يدافع هذا الاتجاه عن القيم البورجوازية والرأسمالية المحافظة. وفي هذا، يقول رايت ميلز:" لقد حول بارسونز المجتمع بأسره إلى مجرد قيم ومعايير، أو إلى رموز مجردة توجد مستقلة عن البشر، وتفرض عليهم سلطانها، وأغفل تماما الأساس الاقتصادي والسياسي للمجتمع، وعبر بوضوح عن انحيازه الإيديولوجي للطبقة الحاكمة. والإنسان عنده غير قادر على تغيير هذه الأنساق القيمية، ولكن عليه أن يخضع لها ويتكيف معها."[7]

ويضيف:" إن تأكيد بارسونز على فكرة التوازن عن طريق الخضوع للمعايير السائدة والمشتركة بين الناس، إنما هو تحذير من أي تمرد أو محاولة لتغيير الأوضاع القائمة"[8].

ومن ثم، فبارسونز مفكر اجتماعي محافظ يبحث عن استقرار مجتمعي مبارك من الله.وفي هذا، يقول بوبوف:" يقرر بارسونز أن بواعث وأهداف الأفعال الاجتماعية لاتحددها الأسباب المادية، بل تحددها سيكولوجية الأفراد بوصفهم ممثلين يقومون بأدوار محددة لهم من قبل، تحددها القيم التي يعتبرونها مطلقة وأبدية، لأن مصدرها هو مجال غير حسي أو تجريبي أي إنه الله.وهنا، يتفق بارسونز مع كل من يبررون للسلطة حكمها في كل زمان بادعاء أنها ممثلة لإرادة الله.[9]"

ومن هنا، يحمل بارسونز، ضمن آرائه النظرية، تصورا محافظا للوجود. وفي هذا الصدد، يقول خضر زكريا:" إن مشكلة بارسونز تكمن في أنه يدعي تأسيس نظرية عامة للفعل، تنطبق على جميع الناس في جميع البلدان ومختلف الأزمان، بينما هو في الواقع يدعو للحفاظ على النظام الرأسمالي القائم في بلده (أمريكا)، ويبرر علاقاته ومؤسساته وأنظمة القوة فيه، بوصفها الأسس التي تقوم عليها جميع المجتمعات، أو على الأقل المجتمعات المرغوبة (المستقرة، المتكاملة، التي تسودها القيم المشتركة).وتعبر بحوثه في نظم القرابة، والطبقات الاجتماعية، وتنظيمات القوة، وغيرها من البحوث التي تتناول البيانات الواقعية لبعض المجتمعات، تعبيرا واضحا عن النزعة المذكورة...

إنه يرى - مثلا- أن التدريج وعدم المساواة بين الناس يعود إلى أنهم يؤدون أعمالهم إما بشكل جيد أو رديء، كما إن مهارتهم وكفاءتهم يجري تقويمهما وترتيبهما في درجات ومراتب.أين نظام الملكية؟ وأين تأثير القوى المهيمنة؟ ألا يتحكم رأس المال الاحتكاري بكثير من آليات التفاوت؟ هل مقياس الكفاءة والفعالية وحدهما هما اللذان يحددان مكان الفرد أو الجماعة في المجتمع الرأسمالي المعاصر؟"[10]

ويتميز هذا الاتجاه بانفصام النظرية عن الواقع، فأصحابه يتبنون فكرة النظام والاستقرار.في حين، يتسم الواقع بالأزمة والتناقضات الجدية البارزة والحادة. وفي هذا السياق، يقول أحمد مجدي حجازي:" لقد رأى أصحاب الفكر المحافظ أن الفجوة قد أصبحت أكثر اتساعا بين  الشواهد الواقعية، والفكر السسويولوجي السائد، نظرا إلى أن شواهد الواقع لاتشير إلى تأصيل الاستقرار كهدف سعى إليه رجال هذا الفكر. وإزاء هذا الموقف المأزوم، أصبح هدف علم الاجتماع من وجهة نظر علماء القرن العشرين يتمثل في كيفية التوصل إلى الحبكة المنهجية والصياغة النظرية المقنعة لمفهوم الأزمة، أو محاولة تخطيها من جانب، ومواجهة الفكر الراديكالي من جانب آخر."[11]

وهكذا، نخلص إلى أن الاتجاه الوظيفي هو تيار سوسيولوجي يركز على البنية والوظيفة. ومن ثم، فهو تصور بنيوي نسقي يربط كل عنصر في المجتمع بوظيفة ما، ويكون الهدف من ذلك كله هو تحقيق النظام والاستقرار والتوازن والتضامن.بيد أن هذا الاتجاه يغلب عليه الطابع الإيديولوجي المحافظ من جهة. ومن جهة أخرى، يدافع عن التواجد الليبرالي البورجوازي، باعتباره النظام الاقتصادي البديل الذي يؤدي إلى الحفاظ على ثوابت المجتمع وتماسكه اجتماعيا وطبقيا واقتصاديا ونفسانيا.

وفي المجال التربوي،  تقوم هذه المقاربة على فكرة الفوارق الوراثية. بمعنى أن المدرسة توحد جميع المتمدرسين في تمثل المعايير الأخلاقية والاجتماعية بغية التأقلم مع المجتمع.وفي الوقت نفسه، تفرق المدرسة بين هؤلاء تقويما وانتقاء واصطفاء. فمن يمتلك القدرات الوراثية والملكات الفطرية، كالذكاء، والنجابة، والقدرات التعلمية الكفائية، ينتقى لتولية المناصب المتبارى عليها، ولكن ليس اتكاء على المحسوبية والأصل والنسب، بل اعتمادا على المعايير العلمية الموضوعية، والإنجازات التقويمية المضبوطة.

ومن جهة أخرى، يرى إميل دوركايم أن وظيفة المؤسسة التعليمية (المدرسة) تقوم على وظيفتي الحفاظية والمحافظة، والتشديد على جدلية الماضي والحاضر. بمعنى أن المدرسة وسيلة للتطبيع، وإعادة إدماج المتعلم داخل المجتمع. أي: تقوم المدرسة بتكييف المتعلم، وجعله قادرا على الاندماج في حضن المجتمع. إذاً، تقوم المدرسة بوظيفة المحافظة والتطبيع والتنشئة الاجتماعية، ونقل القيم من جيل إلى آخر عبر المؤسسة التعليمية.ويعني هذا أن المدرسة وسيلة للمحافظة على الإرث اللغوي والديني والثقافي والحضاري، ووسيلة لتحقيق الانسجام، والتكيف مع المجتمع.أي: تحويل كائن غير اجتماعي إلى إنسان اجتماعي، يشارك في بناء العادات نفسها التي توجد لدى المجتمع.وهذا يؤدي إلى أن تكون المدرسة مؤسسة توحيد وانتقاء واختيار.ويعني هذا أن المدرسة توحد عبر التكييف الاجتماعي، ولكنها تميز بين الناس عبر الانتقاء والاصطفاء.ومن ثم،  فالوظيفة الأولى للمدرسة تتمثل في زرع الانضباط المؤسساتي والمجتمعي.ويرى مارسيل بوستيك" أن كل نظام مدرسي يتسم بسمة المجتمع الذي أنشأه.وهو منظم حسب مفهوم التصور المعطى للحياة الاجتماعية، ولدواليب الحياة الاقتصادية، والروابط الاجتماعية التي تحرك هذا المجتمع.ولهذا، حلل علماء الاجتماع بصورة مباشرة أو غير مباشرة الصلات بين العلاقة التربوية والنظام الاجتماعي، نظرا لأنهم يعدون التربية بمثابة مؤسسة، مهمتها تكييف الشباب مع حياة الجماعة بواسطة إجراءات معقدة الاستنباط.[12]"

 ويعني هذا أن المدرسة لابد أن تقوم بدور  عقلاني حسب دوركايم، بتقديم المعارف والقيم، والحفاظ على المجتمع العلماني الديمقراطي، والدفاع عن  ثوابته النظمية والنسقية والإيديولوجية. وبصيغة أخرى، إن النظام التربوي مطالب بعملية التطبيع والإعداد الاجتماعيين، بتشريب الأجيال القادمة مجموعة من القيم والمعايير والعادات والتقاليد والأعراف، بغية تأهيلهم للأدوار المنتظرة منهم في المستقبل حسب حاجيات النظام الاجتماعي. ويعني هذا أن تقوم المدرسة بوظيفة التنشئة الاجتماعية، وعملية التطبيع والمحافظة على القيم الموروثة.كما تعنى هذه النظرية البنيوية الوظيفية بأدوار المدرسة أو المؤسسة التعليمية داخل النسق الاجتماعي، واستجلاء مختلف وظائفها الأساسية والثانوية قصد الحفاظ على توازن المجتمع وتماسكه واستقراره. دون أن ننسى التركيز على شبكة العلاقات والتفاعلات المباشرة وغير المباشرة، والأدوار، والسلوكيات، والتصرفات الوظيفية، قصد تحقيق مجتمع ثابت منظم. أما إذا وقع اختلال وظيفي، فلابد من عمليات التصحيح أو المعالجة أو المواجهة. 

المبحث الثاني: المقاربـــة الوظيفيـــة التكنولوجيــة

ظهرت هذه المقاربة ما بين سنوات الخمسين والستين من القرن الماضي لتجعل من المدرسة أداة لتكوين اليد العاملة وتأهيلها، بغية تحريك الاقتصاد، وتطوير المقاولات الصناعية والتقنية. ومن ثم، فلقد أدى " هذا المفهوم الوظيفي  للتربية الذي انبنى على تفسير الفوارق التربوية بشكل وظيفي انطلاقا من حاجيات المجتمع المعلنة أو الضمنية، إلى ظهور الوظيفية - التكنولوجية، سيما وأنها وجدت ما يبرر وجودها في بعض معطيات النمو الاجتماعي في الدول الصناعية. ذلك أن التقدم التكنولوجي السريع والنمو الاقتصادي أديا إلى طرح مشكلة اليد العاملة المؤهلة كحاجة جديدة.وهكذا، تميزت فترة 1950-1960 بقناعتين أساسيتين:

الأولى سياسية، وهي أن الانفجار والانتشار الكبير للتربية هو أحسن وسيلة لدولة تريد أن تكون ديمقراطية لكي تحد أو تقلل من التمايزات الصارخة المتجذرة في سلبيات الماضي، وتقلل كذلك من الفروق السوسيو- اقتصادية.

والثانية اقتصادية، ومؤداها أن التربية تساهم في التنمية الاقتصادية بتأهيل اليد العاملة وإعداد الأطر الملائمة (نظرية الرأسمال الإنساني).

ومن ثمة، بدأ الاهتمام ببناء وتربية مجتمع مبني على النمو وتعميم الكفاءات، وبذلك تم  التقاطع والالتقاء  بين الحجج والالتقاء بين الحجج والدلائل التي تقدمها كل من الوظيفية التكنولوجية ونظرية الرأسمال الإنساني التي اعتمدها المنظرون الاقتصاديون الذين يعتبرون التربية كاستثمار منتج على المستوى الفردي والجماعي. وبناء على هذا وجب، حسب هذين التصورين، استثمار كفاءات الفرد إلى أقصى حد وفق ما تسمح به قدراته وحاجيات المجتمع حتى لاتهدر الموارد الإنسانية الثمينة.[13]"

وتقترب هذه المقاربة من نظرية الاستثمار البشري أو نظرية الرأسمال الإنساني. " لكن سرعان ما تعرضت أطروحات التكنو- وظيفية ونظرية الرأسمال الإنساني إلى انتقادات حادة مدعمة بالأرقام والإحصائيات؛ مما جعل حماسها يفتر. ولقد بينت الدراسات الحديثة أن الطاقات البشرية لازالت تعاني من الهدر، على أساس غياب تناسق وانسجام بين النمو التكنولوجي والنمو التربوي.وأظهرت دراسة " دريبين(Dreeben)، مثلا، أن النظام التعليمي الأمريكي ينمو بسرعة، أكثر مما تطلبه حاجيات المجتمع لليد العاملة.كما بينت دراسة أخرى أن العلاقة بين المستوى التعليمي والدخل علاقة  غير قارة، بحيث إنها مرتبطة بسوق العمل وبالظروف أو بقطاع العمل، أكثر مما هي مرتبطة بالشهادات أو بالدبلومات."[14]

ويعني هذا أن المدرسة فضاء لتكوين الأطر وتأهيلها وإعدادها لعالم المقاولة والتقنية.

 

المبحث الثالث: المقاربـة الصراعيـة أو الاتجاه الماركسي الجديد

لايمكن استجلاء هذه المقاربة الصراعية (La théorie conflictualiste ) أو رصد البعد الإيديولوجي للتيار الماركسي النقدي الجديد إلا بالتركيز على المطالب التالية:

 

المطلب الأول: مفهــــوم المقاربــة الصراعيــة

تنبني المقاربة الصراعية على مفهوم الصراع والاختلاف حول السلطة والقوة. ومن ثم، فالمجتمع غير خاضع لمبدإ النظام والتوازن والانسجام كما يقول الوظيفيون (دوركايم، وبارسونز، وميرتون)، بل قائم على الصراع والاختلاف والتوتر. وفي هذا، يقول أنتوني غيدنز، في كتابه(علم الاجتماع)، " يميل علماء الاجتماع الذين يطبقون نظريات الصراع إلى التأكيد على أهمية البنى في المجتمع مثلما يفعل الوظيفيون كما أنهم يطرحون نموذجا نظريا شاملا لتفسير عمل المجتمع.غير أن أصحاب النظريات الصراعية يرفضون تأكيد الوظيفيين على الإجماع، ويبرزون بدلا من ذلك أهمية الخلاف والنزاع داخل المجتمع، ويركزون بذلك على قضايا السلطة والتفاوت والنضال.ويميل هؤلاء إلى أن المجتمع يتألف من مجموعات متميزة تسعى إلى تحقيق أهدافها الخاصة. ووجود هذه المصالح المنفصلة يعني أن احتمال قيام الصراع بين هذه الجماعات يظل قائما على الدوام، وأن بعضها قد ينتفع أكثر من غيره من استمرار الخلاف. ويميل الملتزمون بنظريات الصراع إلى دراسة مواطن التوتر بين المجموعات المسيطرة والمستضعفة في المجتمع، ويسعون إلى فهم الكيفية التي تنشأ بها علاقات السيطرة وتدوم. ويعزو كثير من منظري الصراع آراءهم إلى ماركس الذي أكد في مؤلفاته على الصراع الطبقي، إلا أن بعضهم ينوهون بالأثر الذي تركه فيبر على توجهاتهم.ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه عالم الاجتماع الألماني رالف دارندورف، ففي واحد من أبرز مؤلفاته(الطبقة والصراع الطبقي في المجتمع الصناعي (1959))، يرى دارندورف أن المفكرين الوظيفيين يقصرون دراستهم على جانب واحد من المجتمع- أي نواحي الحياة الاجتماعية التي يتجلى فيها الانسجام والتوافق. وما يعادل أهمية تلك الجوانب، أو يفرق أهمية، هو النواحي الأخرى التي يميزها الصراع والاختلاف.وينتج الصراع، كما يقول دارندورف، بشكل أساسي عن الاختلاف والتعارض بين مصالح الأفراد والجماعات على السواء.وقد اعتقد ماركس أن اختلاف المصالح وقف على الطبقات، غير أن دارندورف يعزوه بصورة أوسع إلى الاختلاف على السلطة والقوة.وفي جميع المجتمعات ينشأ الخلاف والنزاع بين من يملكون السلطة من جهة، ومن يتم إقصاؤهم عنها من جهة أخرى. أي: بين الحكام والمحكومين."[15]

وبناء على ما سبق، ترتكز المقاربة الصراعية على التوجه الماركسي الجديد، وعلى أساس أن المدرسة هي فضاء للصراعات الطبقية والاجتماعية واللغوية والرمزية، أو هي فضاء للصراع حول السلطة والقوة كما يقول دارندورف.  وتتبنى هذه المقاربة التصورات النقدية في ضوء مقترب ماركسي جديد. وخير من يمثل هذه المقارية كل من بيير بورديو (Pierre Bourdieu)، وبودلو(Baudelot)، وإستابليت(Establet)، وبرنار لاهير(Bernard Lahire)، وكولانز (Collins)، وبازل برنشتاين (Basil Bernstein)...

وتنطلق هذه المقاربة من أن العلاقات الاجتماعية هي التي تتحكم في التوجيه المدرسي، وهي التي تساهم في تحقيق النجاح أو تكون وراء الإخفاق الدراسي. ومن ثم، فالأصل الاجتماعي عنصر مهم في التحليل السوسيولوجي، لكنه لايعتبر العنصر الوحيد في فهم الظاهرة التربوية وتفسيرها اجتماعيا. ومن ثم، فالمدرسة، في منظور هذه النظرية، مثل آلة لإعادة إنتاج اللامساواة الطبقية والاجتماعية.

وقد طرحت السوسيولوجيا التربوية، في سنوات الستين من القرن الماضي، سؤال اللامساواة، وكان سؤالا جوهريا، وأسال كثيرا من الحبر إلى يومنا هذا. أما قبل ذلك، فكان سؤال التنشئة الاجتماعية  وإدماج الفرد في حضن المجتع مع إميل دوركايم. ومن ثم، فسؤال اللامساواة المدرسية نتاج للامساواة الطبقية والاجتماعية. ومعنى هذا أن المدرسة تعبير عن الفوارق الفردية والطبقية والاجتماعية واللغوية والثقافية.فأبناء الأغنياء والطبقات المرموقة يحصلون على معدلات مرتفعة، ويستفيدون من التعليم الجامعي. في حين، يحصل أبناء الطبقات الدنيا على معدلات ضعيفة، ويعانون من فوارق التحصيل والذكاء.ثم، لايستطيعون متابعة دراساتهم الجامعية، فيكتفون بالتوجيه المهني أو التقني. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن المدرسة الرأسمالية الطبقية تعيد لنا إنتاج الورثة بامتيازاتهم الطبقية والاجتماعية. بينما يفتقر أبناء الطبقة العمالية إلى الرأسمال الثقافي الذي يمتلكه أبناء الطبقة البورجوازية. ومن ثم، تمارس المدرسة الرأسمالية عنفا رمزيا ضد أبناء الطبقات الكادحة أو المسحوقة اجتماعيا. ومن ثم، فوظيفة المدرسة - حسب بيير بوردو وكلود باسرون – هي تحقيق اللامساواة الطبقية والاجتماعية.ومن هنا، فالمدرسة ليست محايدة أو موضوعية أو عادلة أو كونية، بل تخدم مصالح الطبقة السائدة أو قيم الفئة المهينة على الحكم ليس إلا.

وترى هذه المقاربة أن المدرسة لا تنتقي من هو أكثر ذكاء وقدرة وإنتاجا وإبداعا، بل من هو أكثر مطابقة ومسايرة لتمثلات الفئة الحاكمة.أي: تختار من ينفذ تعليمات الطبقة المالكة للسلطة، ويعيد إنتاج قيمها.


 

المطلب الثاني: أطروحة بيير بورديو وكلود باسرون

 

لقد تناول بيير بورديو مفهوم إعادة الإنتاج بالتحليل والدراسة والتقويم، حينما ركز اهتمامه السوسيولوجي على النظام التربوي الفرنسي مع صديقه جان كلود باسرون(Jean-Claude Passeron)، في كتابهما (إعاة الإنتاج)، منذ سنوات الستين من القرن الماضي[16]، إذ كانت هذه الفترة مرحلة التطور والازدهار العلمي والمنهجي لسوسيولوجيا التربية.

ويمكن القول بأن بيير بورديو وكلود باسرون هما اللذان أعطيا ولادة ثانية لسوسيولوجيا التربية، وقد انطلقا من فرضية سوسيولوجية أساسية، تتمثل في كون المتعلمين لايملكون الحظوظ نفسها في تحقيق النجاح المدرسي. ويرجع هذا الاختلاف إلى التراتبية الاجتماعية، والتفاوت الطبقي، ووجود فوارق فردية داخل الفصل الدراسي نفسه. ومن ثم، فقد قادت الأبحاث السوسيولوجية والإحصائية بورديو وباسرون إلى استنتاج أساسي هو: أن الثقافة التي يتلقاها المتعلم في المدرسة الفرنسية الرأسمالية ليست ثقافة موضوعية أو نزيهة ومحايدة، بل هي ثقافة مؤدلجة تعبر عن ثقافة الهيمنة وثقافة الطبقة الحاكمة. ومن ثم، فليست التنشئة الاجتماعية  تحريرا للمتعلم، بل إدماجا له في المجتمع في إطار ثقافة التوافق والتطبع والانضباط المجتمعي.وبالتالي، تعيد لنا المدرسة إنتاج الطبقات الاجتماعية نفسها عن طريق الاصطفاء والانتقاء والانتخاب. ومن ثم، فهي مدرسة اللامساواة الاجتماعية بامتياز.

ويعني هذا كله أن سوسيولوجيا التربية النقدية قد عرفت منحى مهما في سنوات الستين إلى غاية سنوات السبعين من القرن العشرين، فقد اتخذت بعدا علميا أكثر مما هو سياسي، بعد أن توسعت الهوة بين النظرية والتطبيق، أو بين المؤسسة التربوية والمجتمع، ولاسيما بعد تحول المدرسة الرأسمالية إلى  فضاء للمنافسة والتطاحن والصراعات الاجتماعية والطبقية، أو تحولها إلى مؤسسة هيرارشية أو تراتبية طبقية، تنعدم فيها العدالة الاجتماعية الحقيقية، وتغيب فيها المساواة على مستوى الفرص والحظوظ، حيث يكون الفشل والإخفاق مآل أبناء الطبقات الشعبية. في حين، يكون النجاح حليف أبناء الطبقات الغنية وأبناء الطبقة الحاكمة.أي: أصبحت مدرسة فارقية بامتياز، أو مدرسة للانتقاء والاصطفاء الطبقي والتميز الاجتماعي.

وللتوضيح أكثر، ينطلق بورديو وباسرون من فكرة أساسية هي" أن المدرسة تعمل وفق تقسيم المجتمع إلى طبقات. وهي بذلك تكرس إعادة الإنتاج والمحافظة على الوضع القائم الذي أنتجها.وتبعا لهذا، فإن الأطفال، ومنذ البداية- قبل ولوجهم المدرسة- غير متساوين أمام المدرسة والثقافة. أي: غير متساوين في الرأسمال الثقافي (أي امتلاك المهارات اللغوية الملائمة التي تسهل عملية التواصل التربوي).ولكي تحافظ المدرسة على وظيفتها- إعادة الإنتاج- فهي تفرض معيارا ثقافيا ولغويا معينا، وهو أقرب إلى اللغة والثقافة الساريتين في الأسر البورجوازية منه في الأسر والطبقات الشعبية.إن هذا الإيتوس(Ethos).أي: النظام القيمي المستبطن بعمق، والذي هو لصالح الطبقات المسيطرة يؤدي إلى خلق نوع من الاستعداد أو الأبيتوس لدى الأفراد عن طريق العمل التربوي الذي يسعى أساسا لتشريب التعسف الثقافي المفروض من قبل الجماعة المسيطرة.

وهذا يعني أن طفل الفئة البورجوازية يعيش استمرارية وتكاملا بين ثقافة فئته وثقافة مدرسته، مما يسهل عليه عملية التوافق، إن لم يكن مسبقا متوافقا. ومن ثمة، يصبح وريثا للنظام المدرسي.

أما طفل الطبقة الدنيا، فهو يعيش قطيعة بين ثقافة فئته وثقافة مدرسته.مما يجعل هذه الأخيرة غريبة وبعيدة عنه.ولكي يتوافق دراسيا معها، عليه أن يتخلص من  رواسب ثقافته، ويتعلم طرائق  جديدة في التفكير واللغة والسلوك.أي: أن يمر، حسب تعبير بيرنو (Perrnoud)، أولا بعملية الانحلال من الثقافة، ثم ثانيا بعملية المثاقفة.

وعلى العموم، فإن أطروحة بورديو وباسرون توضح أن الأهداف الضمنية للمدرسة تخدم التكامل بينها وبين الطبقة المسيطرة، مما يجعل أبناء هذه الأخيرة أطفالا ناجحين دراسيا. في حين، إن انعدام التكامل بين المدرسة والطبقة الدنيا، تبعا للأهداف نفسها، يجعل الفشل الدراسي يحصد ضحاياه ضمن أبنائها."[17]

ويعني هذا أن السؤال الذي ركزت عليه سوسيولوجيا التربية، في سنوات الستين، هو سؤال اللامساواة المدرسية التي تعكس اللامساواة الطبقية والاجتماعية، وتعكس مدى اختلاف أبناء الطبقات العمالية عن أبناء الطبقات المحظوطة، واختلاف المستوى التعليمي الطويل الذي يرتاده أبناء الطبقات المحظوظة، والتعليم القصير الذي يكون من حظ أبناء الطبقات الدنيا، ولاسيما أبناء الطبقات العمالية وأبناء المهاجرين على حد سواء.لذا، يغلب النقد الماركسي الجديد على هذه السوسيولوجيا الستينية. والدليل على ذلك الثورة العارمة التي اشتعل أوارها في سنة 1968م؛ بسبب المدرسة الرأسمالية التي كانت - فعلا- مدرسة طبقية بامتياز. ومن ثم، فقد كان الحل  يتمثل في دمقرطة التعليم، وتحقيق المساواة الاجتماعية الشاملة، والحد من الفوارق الطبقية والمجتمعية، ومنع ممارسة العنف الرمزي ضد المتعلمين، وخلق مدرسة موحدة تحقق النجاح لجميع المتعلمين بدون تمييز أو انتقاء أو اصطفاء.

وعليه، يمكن اعتبار دراسات بورديو نقدا للدراسات الكلاسيكية حول سوسيولوجيا التربية؛ لأنها اعتمدت على المقاربة الماركسية النقدية الجديدة في دراسة المدرسة الفرنسية بصفة خاصة، والمدرسة الرأسمالية بصفة عامة،  على أساس أن المدرسة فضاء للتنافس والهيمنة والصراع الطبقي والمجتمعي.

ولم تقتصر نظرية إعادة الإنتاج عند بيير بورديو على ماهو تربوي فقط، بل اهتم كذلك بدراسة إعادة إنتاج الهيمنة الذكورية في المجتمع القبائلي التقليدي بالجزائر، في كتابه القيم (الهيمنة الذكورية/La Domination masculine)[18].

 

المطلب الثالث: أطروحة كولانز

يرى كولانز (Collins) أن الأفراد لايتم انتقاؤهم واصطفاؤهم على أساس القدرات الذكائية والتقنية والمعارف التحصيلية، بل على أساس الانتماء إلى الجماعة المسيطرة ثقافيا، بتمثل تصوراتها، واتباع قيمها. ومن ثم، يكمن الصراع في ضغط الجماعات الحاكمة على المشغلين بأن يعتمدوا على الشهادات في عمليات الانتقاء والاصطفاء، علاوة على معايير التبعية الثقافية والحزبية والإيديولوجية[19]. و" من ضمن ما يؤخذ على هذه الأطروحة أنها انبنت فقط على بعض المعطيات المرتبطة بسياسة الانتقاء والاختيار، وبرواتب المقاولات الأمريكية؛ مما يصعب تعميمها على جميع الأنظمة.غير أنه، وعلى الرغم من هذا القصور، فقد استطاعت أن تبين وجها من وجوه مفارقات العلاقة بين التطور التربوي ومثيله الاجتماعي"[20].

ويعني هذا أن كولانز يثبت أن الأصل الاجتماعي والطبقي له دور مهم في تحديد مصير الفرد.علاوة على انتماءاتهم الحزبية والسياسية والإيديولوجية.


 

المطلب الرابع: أطروحة بودلو وإستابلي

تتمثل أطروحة بودلو وإستابلي في كون المدرسة الرأسمالية تنقسم إلى قناتين: قناة التعليم الابتدائي ذات التوجه المهني، وقناة التعليم الثانوي والعالي ذات التوجه الاحترافي.ويترتب عن القناتين أن أبناء الطبقة العاملة يكتفون بالتعليم المهني القصير.في حين، يهتم أبناء البورجوازية بالتعليم العالي الطويل. وينتج عن هذا وجود صراع طبقي واجتماعي داخل المدرسة." وهكذا، يتضح أن أطروحة بودلو وإستابلي تتميز بالنقد العنيف والمتجذر للنظام التعليمي الرأسمالي( الفرنسي)، غير أن هذا النقد، كما يجمع جل الباحثين، يغلب عليه الطابع السياسي والإيديولوجي الذي طبع فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كما أنه تأثر بنمط التنظير الوظيفي، شأنه في ذلك شأن الثنائي بورديو وباسرون، ذلك أن أطروحتهما حول إعادة الإنتاج، وأطروحة القناتين لبودلو وإستابلي، ركزتا على وظيفة المدرسة من حيث هي وظيفة اصطفائية، تعطي الشرعية للتفاوت الاجتماعي، وتكرس الصراع بين الفئات الاجتماعية.إنها وظيفة مرتبطة عند الأولى بالجانب الاجتماعي-الثقافي، وعند الثانية بالجانب السياسي-الإيديولوجي."[21]

وهكذا، يرتبط بودلو وإستابلي بأطروحة القناتين أو أطروحة التعليم المهني في مقابل التعليم الجامعي العام. فأبناء الطبقات المسحوقة اجتماعيا يختارون التعليم المهني ذي الأمد القصير، وأبناء الطبقة الحاكة يختارون التعليم الجامعي ذي الأمد الطويل.


 

المطلب الخامس: أطروحة بازل برنشتاين

 

 انتشرت اللسانيات الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمركية بشكل لافت للانتباه ؛ بسبب تواجد الكثير من الجاليات الأجنبية. ومن ثم، فقد ارتبطت بمجال التربية والتعليم ارتباطا وثيقا، كما عند بازيل برنشتاين (Basil Bernstein) الذي تحدث عن شفرتين لغوييتن اجتماعيين متقابلتين: لغة ضيقة ومفككة وضعيفة عند أبناء الفقراء، ولغة غنية وموسعة عند أبناء الأغنياء.وفي هذا الصدد، يقول عبد الكريم بوفرة:" انتبه برنشتاين إلى العلاقة المباشرة بين الإنتاجات اللغوية الواقعية وبين الوضعية الاجتماعية للمتكلمين أو الناطقين اللغويين. وانطلق من هذه الملاحظة لكي يصل إلى استنتاج عام، مفاده أن أبناء الشرائح الاجتماعية المتواضعة يعرفون نسب فشل دراسي أكبر من أولئك المنتمين إلى طبقات اجتماعية مستقرة ماديا. ويتميز هذا التفاوت بالفرق بين نظامين لغويين اثنين: واحد ضيق، والآخر متسع...

ولمعرفة حجم الفرق بين النظامين أعلاه تم إخضاع تلاميذ المستويين الاجتماعيين المختلفين لتجربة مثيرة للاهتمام. فقد طلب منهم التعليق كتابة على مجموعة من  الرسوم المتحركة الصامتة. فماذا كانت النتيجة؟

كان جواب الفئة الأولى (تلاميذ الطبقة الاجتماعية المتواضعة) على الشكل التالي:

" هم يلعبون بالكرة، قذف، تكسر الزجاج..."

بينما كان تعليق الفئة الثانية (تلاميذ الطبقة الغنية) بهذا الأسلوب:

" كان الأطفال يلعبون بالكرة، قذف واحد منهم الكرة، ومرت عبر النافذة، وكسرت الزجاج..."

ويكمن الفرق بين النظامين في شكل التعبير من الناحية اللغوية، أي من حيث قواعد النحو والتركيب أولا. ففي الحالة الأولى، نجد جملا قصيرة، تفتقر إلى ضمائر الربط مع معجم محدود جدا.لذا، يجد أولئك التلاميذ صعوبة كبرى في التعبير. فهم عاجزون عن التعلم، وعن رؤية العالم.

وهذا يعني أن التعلم والتنشئة الاجتماعية تنشأ في الأسرة، وليس في المدرسة."[22]

وعليه، فأطروحة بازل برنشتاين [23] ذات طابع لغوي ولساني. بمعنى أن المدرسة فضاء للصراع اللغوي واللساني. فلغة أبناء الطبقة الوسطى والعليا تتسم بالخصوبة، والاسترسال، والمرونة،  والترابط المنطقي والحجاجي. وتميل أيضا إلى التجريد، والترميز، والصورنة المنطقية. علاوة على استعمالها للجمل الطويلة التي تعج بالنعوت والأوصاف والمصادر المؤولة وأدوات الوصل والفصل.في حين، تتسم لغة أبناء الطبقة الدنيا باستعمال شفرة لغوية ضيقة ومحدودة  ومشخصة حسيا.كما أنها لغة مفككة ومهلهلة، غير خاضعة لعمليات التحليل والتأليف المنطقي استقراء واستنتاجا.بيد أن هذه النظرية لايمكن تعميمها بشكل علمي ومنطقي.فثمة أبناء من الطبقة الفقيرة يستعملون اللغة بشكل حيوي، ويحققون درجات من النجاح والتقدم في مستواهم الدراسي، على الرغم من فقر بيئتهم الاجتماعية. كما أن المدرسة ليست دائما مكانا للصراع الطبقي والاجتماعي والسياسي واللغوي والإيديولوجي، بل يمكن أن تكون المدرسة فضاء للتعايش والتواصل والاستقرار.


 

المبحث الرابع: مدرســـة الفعل الاجتماعي

يعد ما كس فيبر  من أهم السوسيولوجيين الألمان الذين أخذوا بنظرية الفعل الاجتماعي. وهدف السوسيولوجيا عند ماكس فيبر هو فهم الفعل الاجتماعي وتأويله، مع تفسير هذا الفعل المرصود سببيا بربطه بالآثار والنتائج. ويقصد بالفعل سلوك الفرد أو الإنسان داخل المجتمع، مهما كان ذلك السلوك ظاهرا أو مضمرا، صادرا عن إرادة حرة أو كان نتاجا لأمر خارجي[24]. ومن ثم، يتخذ هذا الفعل - أثناء التواصل والتفاعل - معنى ذاتيا لدى الآخر أو الآخرين، مادام هذا الفعل الاجتماعي مرتبطا بالذات والمقصدية. أي: الإجابة عن سؤال جوهري ألا وهو: كيف يرى الناس سلوكهم ويفسرونه؟ بمعنى أن " الفعل الإنساني عند فيبر هو السلوك الذي يحمل دلالة ومعنى وهدفا. وأما الفعل المجتمعي، فهو السوك الذي يسلك تجاه الآخرين من خلال مايراه، في سلوك الآخرين، من دلالة ومعنى وهدف."[25]

وإذا كان إميل دوركايم يدرس الظواهر المجتمعية على أنها أشياء موضوعية، فإن ماكس فيبر يدرس الفعل أو السلوك الاجتماعي الذي يتحقق بالتفاعل بين الذوات والأغيار. ويتخذ هذا الفعل معنى ذاتيا وغرضيا. ومن هنا، فقد انتقل ماكس فيبر بعلم الاجتماع من عالم الأشياء الموضوعية إلى الأفعال الإنسانية.أي: انتقل من الموضوع إلى الذات، أو من الشيء إلى الإنسان. كما تجاوز المقاربة الوضعية نحو المقاربة الهيرمونيطيقية التي تقوم على الفهم والتأويل الذاتي الإنساني. وبهذا، قد أحدث قطيعة إبستمولوجية، ضمن مسار علم الاجتماع، بتأسيس مدرسة الفعل الاجتماعي أو المدرسة التأويلية أو الهيرمونيطيقية أو سوسيولوجيا الفهم (la sociologie compréhensive).

ويعني هذا - حسب نيقولا تيماشيف- " أن فيبر  كان يأمل لعلم الاجتماع أن يحتفظ بميزات العلوم الروحية. فضلا عن ميزات العلوم الطبيعية. وهذه الميزات- كما يذهب فيبر- تكمن في تحقيق ضرب من الفهم، يرتكز على الحقيقة التي مؤداها أن الكائنات البشرية تكون على وعي مباشر وإدراك تام ببناء الأفعال الإنسانية. ففي دراسات الجماعات الاجتماعية- مثلا- نستطيع أن نفهم الأفعال والمقاصد الذاتية للفاعلين الذين يمثلون أعضاء الجماعات.

أما في العلوم الطبيعية، فإننا لانستطيع أن نفهم - بهذه الطريقة- حركات الذرات، وكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نلاحظ فقط أو نستنتج الانتظام القائم بين هذه الحركات. ولقد عبر روبرت ماكفر (Maciver) عن التعارض القائم بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية بشكل أكثر وضوحا حينما قال: إن الوقائع الاجتماعية هي في نهاية الأمر وقائع مدركة. فحينما نعرف أسباب سقوط حكومة من الحكومات، أو تحديد سعر من الأسعار، أو أسباب حدوث إضراب من الإضرابات، أو انخفاض معدل المواليد في مجتمع من المجتمعات، فإن معرفتنا هذه ستكون مختلفة- في جانب هام وحيوي- عن معرفتنا لأسباب سقوط الأمطار، أو احتفاظ القمر دائما بالمسافة التي تفصله عن الأرض، أو ظروف تجمد السوائل، أو إفادة النباتات من النيتروجين، فالوقائع التي من النوع الثاني يمكن معرفتها فقط من الخارج، أما الوقائع التي من النوع الأول، فيمكن معرفتها- إلى حد ما- من الداخل."[26]

وبناء على ما سبق، يعرف ماكس فيبر السوسيولوجيا، في كتابه(الاقتصاد والمجتمع) قائلا: " علم الاجتماع هو العلم الذي يعنى بفهم الفعل أو النشاط الاجتماعي وتأويله، وتفسير حدثه ونتيجته سببيا[27]."

إذاً، يدرس علم الاجتماع الفعل أو العمل أو النشاط الاجتماعي. في حين، يدرس عند دوركايم الظواهر المجتمعية. فهنا،  يحضر البعد الإنساني الذاتي مقابل البعد الاجتماعي الموضوعي الشيئي. أي: حضور الذات في مقابل الموضوع.  ويرى فيليب كابان(Philipe Cabin) وجان فرانسوا دورتيه(Jean-François Dortier)  أن السوسيولوجيا عند فيبر" هي علم بخصوص الفعل الاجتماعي. وهو يرفض الحتمية التي يمتدحها ماركس ودوركايم اللذان يحبسان الإنسان ضمن نسيج من الضغوط الاجتماعية غير الواعية، ويعتقد فيبر أن هذه الضغوط وهذه الحتميات لاتعدو كونها نسبية.  ليس المقصود قوانين مطلقة، إنما توجهات تترك على الدوام مكانا للصدفة وللقرار الفردي. وهو يعتبر أن المجتمع نتاج لفعل الأفراد الذين يتصرفون تبعا للقيم والدوافع وللحسابات العقلانية.إن توضيح الاجتماعي يعني - إذاً- التنبه إلى الطريقة التي يوجه بحسبها الناس فعلهم.هذا النهج هو نهج السوسيولوجيا التفهمية. يقول فيبر:" إن ما ندعوه سوسيولوجيا هو علم مهمته الفهم، عن طريق تأويل النشاط الاجتماعي."[28]

ويعني هذا أن المجتمع يتكون من مجموعة من الأشخاص الذين يقومون بسلوكيات أو أفعال أو أعمال، وهذه الأفعال هي جوهر علم الاجتماع. ويعني هذا أن مقاربة ماكس فيبر مقاربة فردية، تدرس سلوك الفرد داخل المجتمع، في إطاره التواصلي والتفاعلي.ويعني هذا أن الإنسان كائن واع، يتصرف عن وعي وهدف، ولسلوكه معنى وقصد، على عكس الأشياء التي يمكن إخضاعها للدراسة العلمية. هنا، ضرورة فهم العالم في ضوء أفعال الفرد، وفهم مقاصدها وأهدافها ونواياها ودلالاتها. ويستوجب فهم العالم دراسة سلوك الأفراد داخل المجتمع، ورصد دلالات الأفعال ومعانيها ومقصدياتها. ويقترب هذا من البعد التواصلي التفاعلي.

وفي هذا السياق أيضا، يقول أنتوني غيدنز:"إذا كانت المنظورات الوظيفية والصراعية تؤكد أهمية البنى التي توجه المجتمع وتؤثر في السلوك البشري، فإن نظريات الفعل الاجتماعي تولي قدرا أكبر من الأهمية لدور الفعل والتفاعل بين أعضاء المجتمع في تكوين هذه البنى.ويبرز دور علم الاجتماع - هنا - في استيعاب المعاني التي ينطوي عليها الفعل الاجتماعي والتفاعل، لاتفسير طبيعة القوى الخارجية التي تدفع الناس إلى نمط معين من الأفعال.وإذا كانت المقاربات الوظيفية والصراعية تطرح النماذج النظرية حول الطريقة التي يعمل بها المجتمع برمته، فإن الملتزمين بنظرية الفعل الاجتماعي يركزون على تحليل الأسلوب الذي يتصرف به الفاعلون الأفراد أو يتفاعلون به فيما بينهم من جهة. وفيما بينهم وبين المجتمع من جهة أخرى.

ويشار إلى فيبر في أكثر الأحيان باعتباره أول الداعين إلى تبني منظور الفعل الاجتماعي.فرغم أنه اعترف بأهمية البنى الاجتماعية مثل الطبقات والأحزاب السياسية واصحاب المكانة وآخرين، فإنه اعتقد في الوقت نفسه أن الأفعال الاجتماعية التي يقوم بها الأفراد هي التي تخلق مثل هذه البنى.وقد جرى في وقت لاحق تطوير هذا الموقف بصورة منهجية في أوساط المدرسة التفاعلية الرمزية التي برزت وشاعت في الولايات المتحدة بصورة خاصة.وتأثرت هذه المدرسة بصورة غير مباشرة بأفكار ماكس فيبر غير أن أصولها المباشرة كانت في أعمال الفيلسوف الأمريكي جورج هربرت ميد (1863-1931م)."[29]

ويعني هذا أن علم الاجتماع - حسب ماكس فيبر- هو دراسة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد داخل المجتمع، وكيف يعطي الناس فهما ذاتيا للعالم، وكيف يوجهون سلوكهم في إطار هذا النوع من الفهم. أي: فهم نوايا هذا الفعل الاجتماعي وأسبابه. ويعني هذا أن منهجه قائم على الفهم  بدل التفسير السببي أو العلي، كما نجد ذلك عند الوضعيين الذين ينتمون إلى المدرسة الدوركايمية. ويعني هذا حضور الذات المؤولة في الفعل الاجتماعي. ولايمكن فهم هذا الفعل السلوكي إلا في سياق تاريخي معين. ولايمكن فهم هذا السلوك الاجتماعي إلا ضمن ثقافة معينة مرتبطة بمجموعة من القيم المتعارف عليها.

أضف إلى ذلك أن الهدف من علم الاجتماع ليس هو بناء النظريات المجردة كما كان يفعل الوضعيون أو التفسيريون الدروكايميون، بل هو علم تاريخي بامتياز. وفي هذا، يقول لورن فلوري (Laurent Fleury):" ولهذا كان على هذا الطموح النظري أن يتفادى الاكتفاء بصياغة قوانين مجردة كتلك التي كانت تدعو إليها المدرسة الحدية (L’école marginale) النمساوية، وبالتحديد كارل منجر (Carl Menger)1840-1921. على علم الاجتماع أن يبقى علما تاريخيا، إذ ليس غرض العلوم الاجتماعية أبدا صياغة قوانين شمولية، فهذا وهم كان ينكره على الوضعيين الذين يريدون بلوغ حقيقة الواقع زاعمين تأسيس علوم الثقافة على نمط علوم الطبيعة في معمعة ما كان يسمى طرح المناهج الذي يضع علوم الطبيعة في مواجهة علوم الثقافة، كان موقع ماكس فيبر واضحا إلى جانب أنصار علوم الثقافة، معرفا علم الاجتماع كعلم تاريخي.[30]" 

وعليه، تعنى السوسيولوجيا الفيبيرية بدراسة أفعال الأفراد في علاقة ببنية المجتمع،  ضمن نظرية التفاعل الاجتماعي أو نظرية التأثير والتأثر.

ويمثل هذا التوجه، في مجال التربية والتعليم، رايمون بودون[31] (Boudon) الذي يرفض تصورات المدرسة الوظيفية والمقاربة الصراعية، على أساس أن المدرسة تعيد إنتاج الطبقات الاجتماعية نفسها، وأنها فضاء للصراع بين الطبقة المهيمنة والطبقة الخاضعة.

وينفي رايمون بودون أن تكون هناك روابط قوية بين اللامساواة التعليمية واللامساواة الاجتماعية. بمعنى أن المجتمع ليس هو السبب في هذه اللامساواة التربوية، بل يعود ذلك إلى اختيارات الأفراد أنفسهم، وقناعاتهم الذاتية، وقراراتهم الشخصية، بناء على حسابات الأسر  الخاضعة لمنطق الربح والخسارة، وطموحاتها الواقعية، ورغباتها المستقبلية.

فبعد أن كانت الحاصلون على الدبلومات والشهادات يحصلون على الوظائف والمناصب المناسبة لهم، ازداد المتعلمون بكثرة، وكثرت الشهادات والدبلومات، وانحصر سوق الشغل.لذا، أصبحت المدرسة لاتوفر للجميع الفرص نفسها من الحظوظ والامتيازات. وليس هذا عائدا إلى أسباب خارجية، مثل: الصراع الطبقي والاجتماعي والثقافي، والهابيتوس العائلي كما يقول أنصار المقاربة الصراعية، بل يعود ذلك إلى اختيارات الأسرة ومنظورها إلى المدرسة من حيث الربح والخسارة. فهناك من الأبناء من يرغب في وضع اجتماعي يشبه وضع آبائهم المهني، ولايجدون حرجا في ذلك أو ظلما. وهكذا، فالبكالوريا بالنسبة لأبناء الطبقة العمالية تشكل فرصة لاتعوض من أجل تحقيق أرباح اقتصادية، ولكن بالنسبة لأبناء الأطر العليا لاتعني تلك الفرصة ربحا حقيقيا لهم إلا إذا استمروا في التعليم الجامعي الطويل. ويعني هذا اختلاف رغبات الأفراد ومنظوراتهم إلى الشهادة أو الدبلوم.فأن تكون معلما بالنسبة لابن عمالي ربح كبير وفرصة لاتعوض.ولكن بالنسبة لأبناء الأطر العليا، فإن ذلك لاينفعهم في شيء. ويعود هذا كله إلى مدى الرغبة في المدرسة، والإقبال عليها. ويعني هذا أن اللامساواة المدرسية راجعة إلى الرغبات الفردية، وليس إلى اختلاف الرأسمال الثقافي أو إلى طبيعة الطبقة المهيمنة أو إلى قاعدة إنتاج الطبقات نفسها. وإذا كانت المساواة مغيبة إلى حد ما  في  المجتمع الليبرالي، فإنه يتميز بالحرية. أما في المجتمعات الاشتراكية، فهناك مساواة بدون حرية.

" وعلى خلاف النظرية الحدسية هذه تبين النظرية العقلانية أن الاصطفاء الذاتي يتم على أساس محكات عقلية بالغة الدقة والخصوصية.ويعد المفكر الفرنسي  رايمون بودون من أشهر ممثلي هذا الاتجاه في مجال تحليل الاصطفاء المدرسي. فالتلميذ يقرر هنا بصورة واعية ما يترتب عليه في الشأن المدرسي.ومن ثم، يدرس الظروف والعوامل والمتغيرات المختلفة، ويقدر إمكانية المتابعة أو أفضلية الترك والتخلي عن الدراسة.وهو في كل الأحوال لايتخذ قراره بناء على فرضية الحدس والاستبطان أو العفوية الحرة في اتخاذ القرار.وهنا، يبدو أن اتخاذ القرار بالتخلي أو الترك يعتمد على موازنة دقيقة تأخذ بعين الاعتبار المخاطر وحدود النفقات والعائدات، ويتحدد مثل هذا القرار وفقا لعوامل ومتغيرات.[32]"

ويعني هذا إذا كان أنصار المقاربة الصراعية قد أخذوا بالحتمية المجتمعية أو الواقعية في تحديد مصير الفرد، فإن رايمون بودون قد أخذ بنظرية الفعل، على أساس أن الفرد حر في أفعاله واختياراته. ويعني هذا أن نظرية الفعل الاجتماعي ترى أن " الأفراد قادرون  على صناعة مصيرهم المدرسي والمهني تأسيسا على مبادراتهم وفعالياتهم الاجتماعية.

ومن أهم الاتجاهات الأساسية لهذه النظريات يمكن الإشارة إلى مدرسة المفكر الفرنسي بودون الذي لطالما يركز في دراساته وأبحاثه على أهمية العوامل المستقبلية في تحديد مصير الفرد ومستقبله.فإذا كان الماضي عند الحتميين هو الذي يحدد ملامح المستقبل، فإن المستقبل عينه هو الذي يرسم المصير عند الأفراد وفقا لأنصار النظرية الفردية.ومن هذا المنطلق يوجه الفردانيون انتقاداتهم الشديدة إلى الثقافويين الذين يعتقدون أن هدف الاصطفاء هو إعادة إنتاج البنى الاجتماعية القائمة، وبأن المدرسة قادرة على فرض قوانيها على الأفراد."[33]

وهكذا، يرى رايمون بودون أن اللامساواة التربوية لاترتبط باللامساواة الاجتماعية والطبقية والثقافية، بل تعود إلى الاختيارات الحرة  للأفراد، وقراراتهم الشخصية، وقناعاتهم الذاتية، وحساباتهم الخاصة التي يضعونها جيدا حين التعامل مع المدرسة.

وخلاصة القول، إذا كانت المقاربات السابقة قد اعتبرت المدرسة فضاء للصراع الاجتماعي والسياسي والطبقي والاقتصادي، فإن ثمة مقاربات أخرى تحلل طبيعة المدرسة في ضوء مقاربات تفسيرية متعددة، اعتمادا على المعطيات الرياضية والإحصائية والمنطقية، بغية معرفة علاقة المدرسة بالحراك الاجتماعي. وقد بينت هذه المقاربات أن العلاقة ليست قوية ولا ضعيفة، بل ثمة عوامل أخرى تتحكم في ذلك. ومن هنا، يمكن الحديث عن  النموذج الإحصائي لجينكس(Jencks)، والنموذج النسقي لسوروكون(Sorikin)، والنموذج النسقي التركيبي لبودون(Boudon)... وهكذا، يرى بودون أن عدم تكافؤ الفرص لايرجع إلى عامل واحد، بل ثمة عوامل عدة ومختلفة تشكل نسقا كليا[34].

 

المبحث الخامس: المقاربــة الإثنوغرافية والأنتروبولوجية

لايمكن فهم هذه المقاربة المركبة، بشكل جيد، إلا إذا توقفنا عند مجموعة من المطالب على الوجه التالي:

 

المطلب الأول: تعريـــف الإثنوغرافيـــا

من المعروف أن الإثنوغرافيا (L’ethnographie) هي دراسة وصفية ميدانية وتحليلية للعادات والقيم والتقاليد والأعراف لجماعات سكانية محددة. وقديما،  ارتبطت هذه المنهجية بدراسة الشعوب البدائية. ويعني هذا أن الإثنوغرافيا هي وصف الشعوب. وقد ظهر مصطلح الإثنوغرافيا سنة 1607م.بيد أنه لم يتخذ دلالته الحقيقية  في فرنسا إلا في سنة 1839م ليدل على المجتمع الإثنولوجي. في حين، يدل المفهوم، في الكتابات الروسية، على دراسة الشعوب. بيد أن المصطلح، في الثقافة الأنكلوسكسونية، يحيل على الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية.

وقد انتشرت الدراسات الإثنوغرافية كثيرا بفعل الاستعمار، وكان الهدف منها دراسة الشعوب المستعمرة، والبحث عن خصوصياتها الإثنية واللغوية والعرقية والاجتماعية والثقافية والحضارية.

ومن هنا، لابد من التمييز بين مجموعة من المصطلحات، كما فعل كلود ليفي شتروس(Claude Lévi-Strauss). وهذه المصطلحات هي: الإثنوغرافيا(Ethnographie)، والإثنولوجيا(Ethnologie)، والأنتروبولوجيا(Anthropologie) على النحو التالي:

الفرع الأول: مفهـــوم الإثنـــوغرافيا

 الإثنوغرافيا عبارة عن دراسات تطبيقية لمعرفة كيفية تنظيم المجتمع. أو بتعبير آخر،" يعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد، والعادات، والقيم، والأدوات والفنون، والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة، أو مجتمع معين، خلال فترة زمنية محددة.[35]"

ويعني هذا أن الإثنوغرافيا بحث تطبيقي ومنهجي وميداني، يهدف إلى دراسة قيم المجتمع وعاداته وأعرافه وتقاليده وأنشطته الثقافية الخاصة.

الفرع الثاني: مفهــــوم الإثنولوجيـــا

 تتميز الإثنولوجيا بطابعها الشكلي، فهدفها وضع خطوط وأوصاف عامة حول تنظيم المجتمع وتطوره. وبالتالي، فهي تهتم" بالدراسة التحليلية والمقارنة للمادة الإثنوغرافية بهدف الوصول إلى تصورات نظرية أو تعميمات بصدد مختلف النظم الاجتماعية الإنسانية، من حيث أصولها وتطورها وتنوعها.وبهذا، تشكل المادة الإثنوغرافية قاعدة أساسية لعمل الباحث الإثنولوجي، فالإثنوغرافيا والإثنولوجيا مرتبطتان، وتكمل الواحدة منها الأخرى."[36]

ومن جهة أخرى،" يعتبر العالم السويسري شافان Chavannes)) أول من استخدم هذه الكلمة، وكان ذلك عام 1787م في كتابه (محاولة حول التربية الفكرية مع مشروع علم جديد)، وإن كلمة إثنولوجيا كانت مرادفة لعلم تصنيف الأعراق والأجناس، وذلك في بداية القرن التاسع عشر. بمعنى أنها كانت في هذا القرن جزءا مما يسمى حاليا بالأنتروبولوجيا البويولوجية، أما في القرن العشرين، وبالضبط في منتصفه، فإنها أصبحت تعني مجموعة العلوم الاجتماعية التي تدرس المجتمعات البدائية أو ما يسمى بإنسان المستحثات. وهنا، ومن خلال هذا المعنى، فإن الإثنولوجيا لم تختلف عن الأنتروبولوجيا، بل هي نفسها الأنتروبولوجيا أو هي جزء منها، وفي معناها الضيق المعاصر فهي تعني الدراسات التركيبية والنتائج النظرية حول الإثنيات أو الأجناس من خلال الوثائق الإثنوغرافية التي تتجلى من خلال الحقائق التالية: إن الإثنولوجيا تدرس الأعراق من خلال ثقافتها، طرق التواصل لديها ومن خلال أصولها العرقية ومن خلال ماضيها من أجل إعادة بنائه، وفي هذا المعنى نجد الإنجليز قد ربطوا كلمة الإثنولوجيا بدراسة المشكلات العامة التي تكون الحقل الأساسي للأنتروبولوجيا الثقافية والاجتماعية.  بمعنى أن الإثنولوجيا ماهي إلا أنتربولوجيا اجتماعية وثقافية.أي: مرادفة لها؛ إن هذه المقاربة بينهما من طرف الدول الأنكلوسكسونية لم تقبل كلية في فرنسا.[37]"

وتنقسم الإثنولوجيا إلى أقسام عدة منها: إثنولوجيا التاريخ التي تدرس الشعوب المنقرضة بإعادة تكوينها وتشكيلها تاريخيا، مثل: دراسة شعوب الأنكا والأزطيك؛ وإثنولوجيا الفلاحة التي تعنى بدراسة المجتمعات الفلاحية أو الزراعية داخل المجتمعات الصناعية؛  وإثنولوجيا المدينة التي تعنى بدراسة بعض الظواهر الاجتماعية داخل تجمعات ضيقة داخل المدينة، كالأمازيغ، مثلا.

الفرع الثالث: مفهـــوم الأنتروبولوجيا

أما الأنتروبولوجيا، فهي عبارة عن دراسة ميتا وصفية وتحليلية تهتم بالمقارنة بين الشعوب والإثنيات والأعراق، والتركيز على مواضيع أنتروبولوجية محددة. وتعرفها مارغريت ميد بطريقة إجرائية:" نحن نصف الخصائص  الإنسانية البيولوجية والثقافية للنوع البشري عبر الزمان في سائر الأماكن.ونحلل الصفات البيولوجية والثقافية المحلية كأنساق مترابطة ومتغيرة، وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطورة، كما نهتم بوصف النظم الاجتماعية والتكنولوجيا وتحليلها، ونعنى أيضا ببحث الإدراك  العقلي للإنسان وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصالاته.وبصفة عامة- فنحن الأنتروبولوجيين- نسعى لربط نتائج دراساتنا وتفسيرها في إطار نظريات التطور، أو مفهوم الوحدة النفسية المشتركة بين البشر.

إن التخصصات الأنتروبولوجية التي قد تتضارب مع بعضها هي في ذاتها مبعث الحركة والتطور في هذا العلم الجديد، وهي التي تثير الانتباه، وتعمل على الإبداع والتجديد، هذا وتجدر الإشارة إلى أن جزءا لابأس به من عمل الأنتروبولوجيين يوجه نحو القضايا العملية في مجالات الصحة والإدارة والتنمية الاقتصادية ومجالات الحياة الأخرى."[38]

ويعني هذا أن الأنتروبولوجيا هي دراسة الإنسان على أساس أنه كائن بيو ثقافي.ومن هنا، " يستخدم الأمريكيون مصطلح الأنتروبولوجيا الفيزيقية للإشارة إلى دراسة الجانب العضوي أو الحيوي للإنسان، بينما يستخدمون مصطلح الأنتروبولوجيا الثقافية ليعني مجموع التخصصات التي تدرس النواحي الاجتماعية والثقافية لحياة الإنسان، تدخل في ذلك الدراسات التي تتعلق بحياة الإنسان القديم ( أو حضارات ما قبل التاريخ)، والتي يشار إليها بعلم الأركيولوجيا، وتتناول الأنتروبولوجيا الثقافية كذلك دراسة لغات الشعوب البدائية واللهجات المحلية، والتأثيرات المتبادلة بين اللغة والثقافة بصفة عامة، وذلك في إطار ما يعرف بعلم اللغويات."[39]

ويعني هذا أن الأنتروبولوجيا تدرس الإنسان في طابعيه العضوي أو الفزيقي (التشريحي، والفيزيولوجي، والمورفولوجي، والتطوري)، والثقافي (النواحي الاجتماعية والدينية والجغرافية والنفسية...).

وتلتقي الأنتروبولوجيا مع الإثنوغرافيا والإثنولوجيا  في دراسة ثلاثة عناصر أساسية هي: الكائن الإنساني، والمجتمع، والثقافة.

وقد انتشرت الدراسات الأنتروبولوجية في المنظومة الأنجلوسكسونية، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كبير،  واتخذت بعدا ثقافيا. ولم تدخل فرنسا غمار هذا العلم إلا مع مجموعة من الأعلام، أمثال: كلود ليفي شتروس، وجورج دوميزيل، ومارسيل موس...وقد اتخذت أعمال الأنتروبولوجيين الفرنسيين طابعا استعماريا.

 

المطلب الثاني: الإثتوغرافيا والتربية

تهتم المقاربة الإثنوغرافية بدراسة المدرسة والجماعة على المستوى المحلي، ودراسة المؤسسة والفصل الدراسي في ضوء المجتمع المصغر، وتمثل الملاحظة والمعايشة وطرائق البحث الميداني، واستعمال الكاميرا والمقابلة بشتى أنواعها، والتركيز على الوحدات الصغرى المكونة للفصل الدراسي، مثل: المتعلم، والمعلم، إلخ...لاستكشاف الجوانب الاجتماعية المخفية[40].

 

المطلب الثالث: الأنتروبولوجيا والتربيــة

يقصد بأنتروبولوجيا التربية ذلك الفعل الذي نمارسه على الآخر من أجل تكوينه وتنشئته وتربيته وتهذيبه وتخليقه وإعداده للمستقبل. أي: ذلك الفعل الإنساني الهادف والمثمر الذي يكون الهدف منه هو تأهيل الآخر وتزويده بمجموعة من المعارف والموارد والمهارات والإمكانيات والمؤهلات المعرفية، والقيم والميول الوجدانية، والممارسات السلوكية والحسية -الحركية. وبتعبير آخر، هو إخراج الإنسان من طبيعته البيولوجية إلى طبيعة ثقافية بفعل التربية والتعليم.

ويعد إميل دوركايم المؤسس الفعلي للأنتروبولوجيا التربوية بين عام 1922و1925م، وقد ربط مهمة التعليم بعملية التطبيع والتنشئة الاجتماعية. ومن ثم، فهدف المدرسة  أو التربية هو الحفاظ على توازن المجتمع وتماسكه وترابطه العضوي. وقد ازدهرت الأنتروبولوجيا التربوية كثيرا في سنوات الستين والسبعين في فرنسا والدول الأنجلوسكسونية. فانتقلت هذه الأنتروبولوجيا من سؤال التكيف والتطبيع والتنشئة الاجتماعية إلى سؤال الفشل الدراسي واللامساواة التعليمية مع بيير بورديو، وكلود باسرون، وإستابليت، وكولان، وبودلو، وبرنشتاين، ورايمون بودون... لينتقل السؤال، بعد ذلك، إلى ماهو بيداغوجي وديدكتيكي، بالتركيز على المناهج والبرامج والمقررات الدراسية، وتحليل المحتويات والطرائق البيداغوجية، ودراسة الوسائل الديدكتيكية، ورصد طبيعة التواصل والتفاعل داخل القسم، والتنقيب في ثقافة المتعلمين، ورصد العلاقة بين المعلم والمتعلم.

أما في سنوات الألفية الثالثة،  فقد  اهتمت هذه الأنتروبولوجيا بسؤال الكفاءات والقدرات التأهيلية لدى المتعلم، ودراسة مجموعة من الظواهر التربوية، مثل: العنف، والشغب، والهدر المدرسي، والبطالة...

ومن أهم الأنتروبولوجيين التربويين نذكر  -على سبيل المثال- العالمتين الأمريكيتين: مرغريت ميد (Margaret mead) وبينيديكت روث فولتون (Benedict Ruth Fulton)...

 

 المبحث السادس: المقاربــــة الإثنومنهجية

يمكن الحديث - سوسيولوجيا- عن ثلاث نظريات كبرى: النظرية الوضعية، والنظرية الوظيفية، والنظرية الإثنومنهجية. وإذا كانت النظرية الأولى تركز على البناء الاجتماعي بما له من دور مؤثر في الفرد، وإذا كانت النظرية الثانية تعنى بدراسة الأنساق الوظيفية، فإن النظرية الثالثة تهتم بالفاعل باعتباره وحدة للتحليل السوسيولوجي، ولكونه أيضا كائنا فرديا يتمتع بالحرية  في اختيار أسلوب فعله، بعيدا عن ضغوطات القهر الاجتماعي، وسياسة الإلزام والإكراه والقسر، وبعيدا كذلك عن الحتميات المجتمعية والمؤثرات الخارجية. ويعني هذا أن الإثنومنهجية تدرس الواقع الروتيني اليومي، ومدى ارتباط هذا الواقع بذاتية الفاعل، وإيجابية دوره، وعقلانية فعله، مع التركيز على دور اللغة في تنظيم المجتمع على مستوى التواصل والتفاعل الرمزي، ونحت مصطلحات خاصة بعيدا عن المصطلحات التي استعملت في النظريتين: الوضعية والوظيفية.   أضف إلى ذلك أنها تركز على مرونة البناء الاجتماعي، والاستعانة بالمناهج الكيفية.

إذاً، ما الإيثنومنهجية؟ وما سياقها التاريخي؟ وما مفهوم علم الاجتماع حسب هذا التصور؟ وما مرتكزاتها النظرية والمنهجية والاصطلاحية؟ وما أهم الانتقادات الموجهة إلى هذه النظرية ؟ هذا ما سوف نتوقف عنده في المطالب التالية:

 

المطلب الأول: مفهــــوم الإثنوميتودولوجـــــيا

 

يتكون مصطلح الإثنوميتدولوجيا (L'ethnométhodologie) من كلمتين: الإثنو (ethno)، وميتودولوجيا (méthodologie)، فكلمة الإثنو تعني الشعب، أو القبيلة، أو الناس، أو السلالة.، ومنها كلمة الإثنلوجيا (Ethnologie) دراسة الشعوب القديمة أو البدائية. أما الميتودولوجيا، فتعني المنهجية أو طريقة البحث.

وقد صاغ هارولد غارفينكل Harold Garfinkel)) هذا المصطلح ليشير إلى" نظرية تهتم بدراسة الطرائق والمناهج التي ينهجها الأفراد في الواقع الفعلي لخلق أنماط سلوكية عقلانية تمكنهم من التفاعل والتعايش في معترك الحياة. هذه الطرائق مستمدة من المعرفة والفهم الشائع في المجتمع، وليس من التراث والمناهج العلمية المنظمة التي يحددها العلماء الاجتماعيون."[41]

ويعني هذا " أن الدراسات الإثنوميتودولوجية تحلل أنشطة الحياة اليومية تحليلا يكشف عن المعنى الكامن خلف هذه الأنشطة، وتحاول أن تسجل هذه الأنشطة وتجعلها مرئية ومنطقية وصالحة لكل الأغراض العلمية، وتهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن الطرائق التي يسلكها أعضاء المجتمع خلال حياتهم اليومية لتكوين نوع من الألفة بالأحداث والوقائع".[42]

ويعني هذا أن الإثنومنهجية تتعامل مع الأفعال الواقعية اليومية العادية التي تتكرر بشكل مستمر، برصد مختلف المعاني التي تتضمنها تلك الأفعال، وتبيان الطرائق التي يسلكها الفرد في التعامل مع تلك الظواهر المجتمعية اليومية. ومن ثم، يهتم هذا التصور النظري بالإنسان ومحنه ومشاكله، بعيدا عن العلوم الوضعية والتجريبية، متأثرا في ذلك بالفلسفة الفينومينولوجية (الظاهراتية) كما عند هوسرل وشوتز...

وفيما يخص التربية- مثلا- " إذا كانت المقاربات السابقة تتناول الوقائع التربوية على شكل علاقات أو ترابطات إحصائية كالعلاقة - مثلا- بين عدم المساواة والكفاءات المدرسية حسب الجنس والمستوى الاجتماعي، معتبرة أن هذه العوامل كفيلة بتفسير عدم المساواة، فإن الدراسات الإثنومنهجية في التربية، على العكس، تقوم بوصف الممارسات التي من خلالها يقوم الفاعلوم في النظام التربوي (معلمون، متعلمون، آباء، مقررون...إلخ) بخلق وإنشاء وتشكيل هذه الظواهر.إنها تدرس الظاهرة وهي تتكون وتتشكل (مثلا ظاهرة اللامساواة)، عكس علماء اجتماع إعادة الإنتاج الذين يدرسون الظاهرة بعد وقوعها ويبحثون عن أسبابها."[43]

إذاً، تدرس هذه النظرية الطرائق والمنهجيات التي يسلكها الأفراد في القيام بأفعالهم في الواقع اليومي الطبيعي، بفهم مختلف الإجراءات العملية والخطط والمنهجيات المتبعة من قبل الفاعلين في إنجاز أنشطتهم اليومية، بهدف فهم تلك الإجراءات وتوضيحها وتدقيقها، وجعلها أكثر وضوحا وجلاء وبروزا.

 

المطلب الثاني: السيــــاق التاريخــــي

ظهرت الإثنومنهجية مع السوسيولوجي الأمريكي هارولد كارفينكل(Harold Garfinkel) (1717-2011م). وقد انتشرت نظريته في الدول الأنجلوسكسونية ما بين الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ولم تعرف نظريته في فرنسا  إلا في سنوات الثمانين. ومن أهم كتبه (دراسات في الإثنومنهجية) الذي صدر سنة 1967م[44]. وينطلق الكتاب من الميكروسوسيولوجيا ذات الطابع التفاعلي، مع الاستعانة بالفينومينولوجيا الاجتماعية كما عند ألفرد شوتز (Alfred Schütz).

وتنبني هذه النظرية على أربعة مرجعيات نظرية هي: الفينومونولوجيا، ونظرية الفعل لدى برسونز، والتفاعلية الرمزية، واللسانيات المعاصرة.

 

المطلب الثالث: مقومات النظرية

يرتكز هذا التصور السوسيولوجي على مجموعة من المسلمات هي:

u دراسة الواقع الروتيني العادي واليومي.أي: دراسة الفعل الاجتماعي الصادر عن الفاعل في الأماكن العامة أو أماكن العمل أو في الأماكن التي يشبع فيها الأفراد حاجياتهم الاجتماعية  اليومية التي تقع بشكل تكراري رتيب ويومي، و" تشغل اهتمام الناس في الشؤون العامة والخاصة، وتعكس تصرفهم العملي لا الفكري، بالذي يمكن ملاحظته وتسجيله.ويتضح مما سبق، أن الأفعال الظرفية والطارئة والعابرة لاتمثل اهتمام هذا الاتجاه لأنها لاتمثل فعلا اجتماعيا مستمرا في الحدوث، يمكن بواسطته التوصل إلى معرفة معايير ضبطه ومقوماته القيمية.ومن هنا يمكن القول: إن هذا الاتجاه يعتمد على مستويات التحليل السوسيولوجي الصغرى.[45]"

ويعني هذا أن النظرية ترتبط بالواقع العادي اليومي الذي تتكرر فيه أفعال الأفراد ذات المعنى والمقصدية الاجتماعية.

v ذاتية الواقع الاجتماعي: بمعنى أن الواقع الاجتماعي مرتبط بالفاعل أو الذات الفردية التي تعبر عنه بواسطة الكلمات والعواطف والإشارات، ضمن تجارب ذاتية وإنسانية غير خاضعة للتشييء الموضوعي.

wإيجابية الفاعل الاجتماعي: إذا كانت الوظيفية والوضعية تعتبران الإنسان نتاج المجتمع وجبرياته وحتمياته، وأنه كائن سلي لادور له في تغيير المجتمع، فإن النظرية الإثنومنهجية ترى أن الإنسان كائن إيجابي له دور كبير في تحريك المجتمع وتغييره.

x عقلانية الفعل الاجتماعي: ويعني هذا أن الفعل الاجتماعي فعل عاقل وهادف، يخضع لمنهجية أو خطة أو طريقة واضحة، والتحكم في الأفعال وردود الأفعال وفهمها جيدا، والوعي بمدى خطورة كل فعل ينتهك معايير الآداب والتفاهم المشترك.  " وهذا يعني أن كل موقف تفاعلي له منطق، إذا نظرنا إليه من وجهة نظر الفاعل نفسه أو مجموعة الفاعلين الداخلين فيه، بحيث يتضح منطق الموقف في إدراك الفاعل له وتحديده وتقييمه، وهنا تختفي التمييزات المزعومة بين الأفعال المنطقية وغير المنطقية، الرشيدة وغير الرشيدة، العقلانية وغير العقلانية.[46]"

وبتعبير آخر، تدرس هذه النظرية الأفعال العاقلة والهادفة التي تحمل مضمونا اجتماعيا، ضمن واقع سياقي تفاعلي.

y دور اللغة في تنظيم المجتمع: اهتم هذا الاتجاه بتحليل المحادثات والتفاعلات الاجتماعية الرمزية، بالتركيز على حديث الأفراد وطريقة حديثهم، والفضاءات التي يتحدثون فيها. وهذا كله يشكل واقع الفعل الاجتماعي.ومن ثم، التركيز على التواصل اللغوي وغير اللغوي، الصريح أو الضمني الذي يكون بين الأفراد، والقواعد المشتركة التي تتحكم في هذا التواصل التفاعلي والرمزي.

z واقعية المصطلحات العلمية: ويعني هذا أنه من الضروري توظيف المصطلحات نفسها التي يستخدمها الأفراد أثناء تفاعلهم في المجتمع، بالابتعاد قدر الإمكان عن المصطلحات السوسيولوجية العلمية التي يوظفها الأخصائيون في مجال السوسيولوجيا. أي: ثمة ما يسمى بالتعبيرات الدالة والتعبيرات الموضوعية.لذا، على الباحثين، في مجال علم الاجتماع، أن يستخدموا التعبيرات الدالة المرتبطة بالحياة اليومية، وبسياق الفعل الاجتماعي العادي واليومي للأفراد الفاعلين. في حين، ترتبط التعبيرات الموضوعية بالعلوم والمعارف العلمية التي تصف الظواهر  والأنشطة العلمية.

{ مرونة البناء الاجتماعي: ليس هناك بناء مجتمعي ثابت أو نسق يتخذ صورة دائمة بشكل مستقر، بل البناء الاجتماعي يخضع للأفراد، ويتغير بتغيرهم، وبتغير الزمان والمكان. ويعني هذا أن الأنساق الاجتماعية الفردية أنساق مرنة بمرونة الظروف الاجتماعية التي تحيط بهم.

| الاعتماد على المناهج الكيفية: لايعتمد هذا التصور السوسيولوجي على المناهج الكمية التي تستخدم الإحصاء الرياضي كما هو حال الوظيفيين والوضعيين والتجريبيين، بل يدرسون الفرد في ضوء مقاربات كيفية وتفهمية.لأن العواطف الإنسانية لايمكن إخضاعها للتكميم الرياضي، بل المعايشة أصلح منهج لدراسة هذه الظواهر الاجتماعية الفردية اليومية، وأحسن الطرائق المستخدمة في ذلك ليصبح الفعل الفردي فعلا عقلانيا هادفا وراشدا.

 

المطلب الرابع: المفاهيم الإجرائية

أما عن المفاهيم الإجرائية والمصطلحات التي يستخدمها  هذا التيار في أبحاثه السوسيولوجية، فهناك مصطلح الإثنوميتودولوجيا الذي يعني عند غاريفنكل ما يلي:" إن الدراسات الإثنوميتودولوجية تحلل أنشطة الحياة اليومية تحليلا يكشف عن المعنى الكامن خلف هذه الأنشطة، وتحاول أن تسجل هذه الأنشطة، وتجعلها مرئية وصالحة لكل الأغراض العلمية، وتهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن الطرائق التي يسلكها أعضاء المجتمع خلال حياتهم اليومية لتكوين نوع من الألفة بالأحداث والوقائع"[47].

وهناك مفهوم عالم الحياة اليومية الذي يقول عنه غارفنكل:" انظر حولك، وفي كل مكان، فسوف تجد أشخاصا عاديين يمارسون حياتهم بمختلف أوجه النشاط، وهذه القدرة على الدخول في صلات متبادلة من خلال تلك الأنشطة، هي التي تجعل العالم الاجتماعي ممكنا، وعليك كعالم اجتماع أن تأخذ هذه الأفعال الملموسة والمألوفة لدى الجميع، وأن تفحصها لكي يتبين لك كيف تقع ولماذا؟"[48]

وهكذا، دخل هذا التيار السوسيولوجي إلى المؤسسات الرسمية لإدراك التفاعلات الاجتماعية بين العاملين، ودخل كذلك إلى المنازل للتعرف إلى النسيج العلائقي الذي يجمع بين أفراد الأسرة، وإلى المحاكم ومراكز الشرطة والمدارس والعيادات الطبية بغية رصد مختلف الأنشطة التي يمارسها الأفراد في الواقع.

وهناك مصطلح آخر يسمى بالفعل المنعكس، ويشير إلى " أن الكثير من أنماط التفاعل التي تحدث بين أعضاء المجتمع تهدف إلى المحافظة على رؤية معينة للحقيقة الاجتماعية التي قاموا بتشكيلها في مواقف محددة.ونجد أن الكثير من أنماط التفاعل بين أعضاء المجتمع تعتبر أفعالا منعكسة، فالكلمات والإشارات والإيماءات التي نستخدمها أثناء عملية التفاعل، تهدف إلى المحافظة على رؤية معينة للحقيقة الاجتماعية، وتستخدم في تشكيل وتفسير وإعطاء المعاني للعالم الاجتماعي."[49]

وهناك مفهوم البيئة المرتبطة بالمعنى.ويعني هذا أن التفاعل أو التواصل ين الأفراد داخل بيئة مجتمعية معينة مرتبطة بدلالات معينة أو بمواقف سياقية معينة ومحددة.

أما مفهوم العقلانية، فيبرز أن الأفراد يتصرفون ويؤدون أفعالهم وفق منهجية عقلانية، أو خطة واضحة المعالم، ومرسومة بدقة، كتصنيفه بين الناس والأشياء، وعندما يزن الأمور بحكمة وعقلانية، وعندما يبحث عن الوسائل لتحقيق أهدافه وغاياته، وعندما يقدر الوقت، وعندما يتنبأ بالأحداث، وعندما يستعمل منهجيات وخططا ما...

 

المطلب الخامس: التصـــور المنهجي

رفض غارافينكل وأتباعه استخدام المنهج الكمي، واستعمال الاستبيانات أو الاختبارات العلمية، أو أسلوب المقابلة المفتوحة، واستبدل ذلك بالملاحظة، والمنهج التوثيقي، والمنهج شبه التجريبي.

ومن ثم، فهذه النظرية عبارة عن منهجية أو ممارسة تطبيقية ظهرت في مجال الإثنوغرافيا، وتشير إلى مختلف التطبيقات التي أجريت على الجماعات الخاصة انطلاقا من أسئلة خاصة. وهناك، تخصص آخر يسمى بالإثنوطبي(l'ethnomédecine) الذي يعنى برصد مختلف الممارسات العلاجية التي استعملت في مجال الطب. ومن ثم، فالإثنومنهجية ليست منهجية خاصة، بل ميدان يهتم بالمنهجيات الإثنولوجية. ويعني هذا أن الإثنومنهجية تدرس الأنشطة الجماعية ليس من الخارج، بل من الداخل. ولهذه المنهجية علاقة وطيدة بالفينومينولوجيا، مادامت تركز على التجارب المعاشة في العالم. ويعني هذا أنها تهتم بالظواهر الإنسانية بمعايشتها وملاحظتها والتعاطف معها من الداخل. وبالتالي، تندرج هذه المنهجية السوسيولوجية ضمن العلوم الإنسانية، ولاعلاقة لها بالتصورات الوضعية عند أوجست كونت أو دوركايم. وتستند إلى مجموعة من التصورات والمرجعيات المختلفة لهوسرل(Husserl)، وفيتجنشتاين(Wittgenstein)، وإرفين كوفمان(Erving Goffman.)، وشوتز(Schütz)، وبار هيلل(Schütz)، ونوام شومسكي(Noam Chomsky)...

وتنبني هذه المنهجية على ثلاثة معايير أساسية هي: ملاحظة الواقع أو الميدان؛ ثم وضع حدود للموضوع الذي يحلله ويدرسه؛ ثم المعايشة القائمة على الحضور الفعلي داخل الميدان في الزمان والمكان، قصد وصف المعنى الذي تحمله أفعال جماعة معينة.

ومن المعلوم أن البحث الإثنوغرافي يشير عادة " إلى دراسة الأفراد والجماعات  ميدانيا  عن طريق المعايشة المباشرة على مدى فترة زمنية محددة، باستخدام الملاحظة التشاركية أو المقابلة الشخصية بقصد التعرف على أنماط السلوك الاجتماعي. ويهدف البحث الإثنزوغرافي إلى اكتشاف المعاني الكامنة وراء الفعل الاجتماعي  عن طريق انخراط الباحث المباشر بالتفاعلات التي يتكون منها الواقع الاجتماعي  للجماعة المدروسة.وقد تمتد الفترة التي يعايش فيها العالم الاجتماعي جماعة أو  مؤسسة أو مجتمعا محليا ما إلى عدة أشهر، وربما إلى سنوات لملاحظة الأنشطة  اليومية والأحداث، وإيجاد تفسيرات لما يتخذ من قرارات أو ما يصدر عن الجماعات من أفعال وتصرفات.وربما  تنطوي البحوث الإثنوغرافية على بعض المخاطر، سواء ما ينجم منها عن البيئة الطبيعية مثل المناطق الجبلية أو الصحراوية أو النائية، أو عن سياقات اجتماعية معينة مثل معايشة الفئات المنحرفة أو المشتبه بانخراطها في نشاطات جرمية.

وتقدم الإثنوغرافيات الناجحة ثروة من المعلومات والبيانات حول الحياة الاجتماعية، وتتفوق في هذا المجال على أساليب البحث الأخرى. فهي تدرس الجماعة البشرية من الداخل، ومن ثم تستطيع تقديم نظرة ثاقبة على أنشطتها  ومقاصد الأفعال والقرارات التي تتخذها. كما يمكن هذا النوع من الدراسات أن يراقب ويدون ويحلل السيرورة/ العملية الاجتماعية التي تتمفصل وتتقاطع مع الوضع الاجتماعي المدروس.ويشار إلى البحوث الإثنوغرافية عادة بوصفها واحدة من أنواع الدراسات النوعية (الكيفية)، لأنها تعنى في المقام الأول بالفهم الذاتي للظاهرة أكثر مما تهتم بالبيانات الإحصائية الرقمية.كما أن البحث الإثنوغرافي يعطي الباحث قدرا واسعا من الحرية والمرونة والقدرة على التكيف مع الظروف والأوضاع الطارئة. وأخذ زمام المبادرة لتوجيه الدراسة لمتابعة البحث وفق التطورات المستجدة. غير أن للعمل الإثنوغرافي الميداني حدودا تقيده، ومخاطر منهجية قد تؤثر في ما يتوصل إليه من تحليلات ونتائج.فإن مجاله يقتصر على دراسة مجموعات صغيرة وقليلة من الجماعات.كما أن العمل نفسه يعتمد، إلى حد بعيد، على مهارة الباحث المهنية، وقدرته على كسب ثقة أفراد الجماعة.وقد يقع الباحث، من ناحية أخرى، تحت تأثير التصاقه وتعايشه ومشاركته الوجدانية للجماعة إلى حد يضيع معه منظوره المنهجي العلمي في دراسة الظاهرة باعتباره مراقبا موضوعيا محايدا."[50]

وعليه، فالمنهج الإثنوميتودولوجي له علاقة وثيقة ووطيدة بنظرية التفاعل الرمزي، وبالتصورات الفيبيرية. ومن ثم، فهو يعنى " بدراسة الكلام والمحادثة العادية بين الناس؛ ويختص هذا المنهج الذي وضع أصوله هارولد غارفنكل[51] بتحليل الطرائق التي نفسر بها ما يعنيه الآخرون بأقوالهم وأفعالهم، ويتسم الكلام اليومي بدرجة عالية من التعقيد، ويرتكز، في جوهره، على مجموعة من التفاهمات المشتركة بين من يتبادلون الحديث. وعندما تنتهك القواعد غير المعلنة للمحادثة، بصورة مقصودة أو غير مقصودة، فإن الناس يحسون بالانزعاج وبعدم الأمان."[52]

 ويعني هذا أن الإثنومنهجية تحاول أن توضح وتفهم كيف يفهم الناس ما يقوله الآخرون، ويفعلونه أثناء اجتماعهم اليومي. وتستند هذه النظرية إلى المنهجيات الإثنوغرافية التي يستخدمها البشر في التواصل والتبادل الدال والهادف. ومن ثم، تدرس هذه النظرية كل خطاب تواصلي لغوي وغير لغوي. أي: نحن، في حياتنا اليومية العادية، نتواصل بالرموز والإشارات والعلامات البصرية والسيميائية. وفي الوقت نفسه، نتواصل باللغة كثيرا. ومن ثم، فاللغة ظاهرة اجتماعية بامتياز، وقد اهتمت بها اللسانيات الاجتماعية، والنظرية التفاعلية الرمزية مع إرفينغ غوفمان، والمنهجية الإثنوميتودولوجية مع غارفينكيل.  ومن ثم، فمحاداثتنا اليومية تفترض تفاهمات مشتركة بين الناس.بيد أن انتهاك أعراف هذه التفاهمات ينتج عنها عواقب وخيمة، كالإحساس بالخطر وعدم الأمان." إننا نكون أكثر ارتياحا عندما يلتزم الآخرون بالقواعد الخفية المضمرة المستقرة في تواصلنا الكلامي العابر مع الآخرين، وقد نصاب بالارتباك عن هذه الأصول. وفي الأغلبية الغالبة من محادثاتنا العادية اليومية نحرص على اكتشاف المؤشرات التي تبدر عن الآخرين للدلالة على مقاصدهم من عملية التفاعل مثل الإيماءات، ولحظات التأني أو التوقف.ويفضي هذا الوعي المشترك المتبادل إلى تيسير عملية التفاعل أو فتحها أو إغلاقها، وإلى إضفاء صفة التعاون أو عدمه على كل واحد من الأطراف المعنية."[53]

ومن هنا، فالإثنومنهجية عبارة عن تيار سوسيولوجي يصف الواقعية الاجتماعية، ويفهمها انطلاقا من تطبيقات عفوية وممارسات عادية للحياة اليومية.أي: تدرس هذه النظرية كل ماهو عفوي وعادي في الحياة اليومية فهما وتأويلا ومعايشة. ومن هنا، يركز التيار على دراسة مختلف الأنشطة الصادرة عن الأفراد في حياتهم العادية، باعتبارها ممارسات تطبيقية هادفة وواقعية وعاقلة وواعية وملاحظة.  


 

المطلب السادس: تقويم النظرية

 

 هناك مجموعة من الانتقادات التي وجهت للتيار الإ ثنومنهجي منها أنه تيار محافظ لايعنى بالمشاكل الاجتماعية والسياسية العويصة والمعقدة، ولايعطي الحلول لمختلف أنماط الصراع والتوترات التي يعرفها المجتمع. و" يكمن الطابع المحافظ للاتجاه الإثنوميتودولوجي في كونه لايملك تصورا نظريا عن المجتمع، ولارؤية معينة اتجاه العالم الاجتماعي، وهو ما يتماشى مع ماعبر عنه غارفينكل صراحة من أن " البحوث الإثنوميتودولوجية ليست موجهة نحو تصحيحات معينة، كما أنها لاتقدم حلولا لمشكلات اجتماعية، ولا تشغل بالها بمناقشات إنسانية أو جدال نظري، فلاقيمة للنظريات التي تخدم مصالح معينة ولاتعبر عن الواقع[54]"

يضاف، إلى ما سبق قوله، تركيز هذا الاتجاه على دراسة مواقف الحياة اليومية، متجاهلا البناء الاجتماعي والتغيرات التي قد يتعرض لها هذا البناء، ما يعني عزوفه عن دراسة القضايا الأساسية للمجتمع والمتمثلة في الصراع والتغير الاجتماعي والتحليل التاريخي والاقتصادي للبناء الاجتماعي. وعلى الرغم من اهتمام اصحاب هذا الاتجاه بدراسة التغير الاجتماعي على مستوى الوحدات الصغرى، إلا أننا نجدهم يدعون إلى تغيير الذات بدلا من تغيير البناء الاجتماعي، بدعوى أن أعضاء المجتمع هم الذين يشكلون الواقع أو الحقيقة الاجتماعية، ما يؤكد الطابع  المحافظ لهذا الاتجاه."[55]

ويتميز هذا الاتجاه بعدم ثورتيه مقارنة بالمقاربة  الصراعية ؛ لأنه يبدأ بالوعي الفردي.وهذا يتناقض مع التوجه الماركسي الذي يعطي أهمية كبرى للفئة أو الطبقة الاجتماعية القادرة على تغيير واقعها. في حين، يعنى الاتجاه الإثنومنهجي بأهمية الفرد في بناء مستقبله وواقعه. ومن ثم، فهو حر ومسؤول عن أفعاله.بينما يرى التوجه الماركسي أن الإنسان أو الفرد نتاج للمجتمع. كما ينفصل عن النظريات الكلاسيكية باهتمامه بما هو حياتي يومي، وبسلوك الفرد مقابل الاهتمام ببنية المجتمع التي تتحكم في الأفراد، وتشكل وعيهم وتصرفاتهم. كما اهتم الاتجاه الإثنومنهجي بعناصر النظام العام، واهتمام بالقيم والمعايير الضابطة للسلوك.

إذاً، تبعد هذه النظرية ماهو سياسي واجتماعي،  وفي مجال سوسيولوجيا التربية، " تقتصر على دراسة تفاعلات الفاعلين، معتمدة فقط على التحليل المصغر مما يجعلها  علم اجتماع بدون مجتمع.والواقع - كما يقول كولون (Coulon)[56]، إن الإثنومنهجية لاتنفي وجود البنية الاجتماعية ولاتحصر دراستها في مستوى تفاعلات الفاعلين المدرسيين، وإنما تركز على عدم دراسة البنية معزولة عن الأنشطة التي تساهم في بناء البنية.إنها تبين كيف أن الوقائع التربوية الموضوعية تنبثق عن الأنشطة.إنها تكشف وتعري الإجراءات التي بواسطتها يخفي المجتمع عن أفراده أنشطة التنظيم، ويقودهم للاعتراف بها كأشياء محددة ومستقلة.إنها فتحت العلبة السوداء للمدرسة، وجعلت الكل يرى كيف تتكون اللامساواة."[57]

بيد أن إيجابيانت هذا المنهج أنه يتعمق في بحوثه بغية استجلاء ماهو خفي ومضمر في الفعل الإنساني، وكشف المعلومات العميقة عبر المشاركة والمعايشة من الصعب الوصول إليها بالطرائق الكمية التقليدية، مع استغلال الوثائق والملاحظة التفهمية في سبر حقائق الظاهرة الواقعية اليومية. وبهذا، يكون هذا المنهج قد استفاد من الظاهراتية، في تناول الإنسان والدفاع عنه في كليته العامة التي تتفاعل فيها الذات مع الموضوع.

وخلاصة القول، يتبين لنا أن الإثنومنهجية أو الإثنوميتودولوجية نظرية أو مقاربة سوسيولوجية تهتم " بالإجراءات التي تشكل التفكير الاجتماعي العملي. وبناء على هذا التعريف، فهي لاتهتم بدراسة الأسباب أو العوامل المحددة لظاهرة ما، كظاهرة عدم المساواة مثلا، وإنما تهتم بدراسة المعنى الذي ينتجه الفاعلون وهم في وضعية تفاعل.إن هذا الانقلاب الإبستمولوجي يستمد أصوله من علم الاجتماع التفهمي ومن الظاهراتية[58]". ومن أهدافها الأساسية رصد أفعال الإنسان في الحياة اليومية العادية، على أساس أن تكون تلك الأفعال دائمة ومستمرة ومتكررة، بهدف استجلاء دلالاتها ومعانيها وتأويلها، والبحث عن مختلف الطرائق التي يسلكها الفرد في أداء أفعاله في تماثل تام مع الواقع أو المجتمع.ومن ثم، تنبني هذه النظرية على المنهجية الكيفية القائمة على المعايشة الإثنوغرافية، وتمثل منهجية الفهم في دراسة الأفعال وتفسيرها وتأويلها.

 

المبحث السابع: المقاربـــة الثقافيـــة

ترى المقاربة الثقافية أن العامل الثقافي وعوامل أخرى تكون سببا في التفاوت التربوي بين المتعلمين في ما يخص الحصول على العمل. فإذا كان أبناء السود مرتبطين بمناطق مهنية وصناعية محددة لمزاولة عملهم، فإن أبناء البيض يمكن لهم أن يعملوا في مناطق متعددة ومختلفة؛ لأنهم قادرون على التكيف مع جميع البيئات، مادامت ثقافتها واحدة ومشتركة. ومن هنا، يقوم بالبعد الثقافي بتحديد مصير التلميذ أو الطالب. وفي هذا الصدد، يقول غيدنز:" قام بول ويليس[59] (Willis) وآخرون بسلسلة من الدراسات البحثية والميدانية المثيرة حول ظاهرة إعادة إنتاج الثقافة في الجانب التربوي. والسؤال الرئيسي الذي تصدت هذه المجموعة من المحللين لدراسته هو، ببساطة: كيف يتحدد المسار الحياتي لأبناء الطبقة العاملة بحيث يجدون أنفسهم آخر الأمر في مجالات عملية تشبه تلك التي كان يعمل فيها آباؤهم؟ فمن الاعتقادات الشائعة أن أطفال الشرائح الدنيا والأقليات في الهرم الاجتماعي يتعرضون خلال المراحل الدراسية الأولى لبيئة تشعرهم بأن ثمة حدودا لايمكنهم تجاوزها في حياتهم العملية والمهنية في المستقبل.وبعبارة أخرى، فإن التربية المدرسية تجعلهم يحسون بعقدة النقص منذ الصغر، وتدفعهم إلى المجالات المهنية التي لاتعزز من مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية.

ويرى ويليس أن مثل هذه التفسيرات الشائعة لاتطابق الواقع الفعلي، فالتلاميذ أو الطلاب الذين يتركون مقاعد الدراسة وهم يحملون هذا الشعور قلة قليلة. وإذا كان أحدهم يعتقد أن من يترك المدرسة أو الجامعة هو شخص غبي أو بليد لايصلح إلا للأعمال اليدوية القليلة الأجر، فإن السبب في ذلك لايعود إلى البيئة المدرسية نفسها بل إلى مجموعة مركبة من العوامل.ففي إحدى الدراسات التي أجريت في مجموعة من المدارس في بريطانيا، تركز البحث على مجموعات من التلامذة البيض وأخرى من الملونين ذوي الأصول الآسيوية أو الكاريبية. وأظهرت الدراسة أن مجموعة البيض تدرك أنظمة المدرسة إدراكا تاما غير أنها تكون أكثر ميلا للمشاكسة والشغب من جماعات الملونين الذين يتصفون بدرجة أعلى من الانضباط.ويشير هؤلاء الأولاد في سوق العمل مع أن المجموعتين تنحدران من شريحة واحدة هي الطبقة العاملة.وتتجلى هذه العوامل في عدة جوانب من بينها اندفاع البيض بحماس أكثر للتقدم بطلبات العمل حتى لو كانت مواقع العمل بعيدة عن أماكن سكناهم الأصلية.وقد يعود ذلك إلى أنهم يتحركون في بيئات ثقافية مشابهة لبيئتهم الأصلية، بينما يميل الملونون إلى التمركز في المدن والمراكز الحضرية الرئيسية."[60]

ومن هنا، يقوم العامل الثقافي، بمعية عوامل أخرى، في تحديد مستقبل التلامذة، ورسم مصيرهم المهني والحرفي.


 

المبحث الثامن:  نظريــــة الجنوســــة

مازالت الوظائف والمناصب الأكاديمية المهمة من حق الذكور مقارنة بالإناث، على الرغم من استحقاقاتهن المتميزة، وتفوق عددهن في الحياة الدراسية في السنوات الأخيرة. إلا أن أهم الامتيازات العلمية تكون من نصيب الذكور. وفي هذا السياق، يقول أنوتني جيدنز:" على الرغم من الارتفاع النسبي الذي حققته الإناث في مجال الالتحاق بالمدارس والجامعات في المجتمعات الغربية وفي بعض المجتمعات النامية، فإن المنظمات النسوية مازالت تشير إلى التفاوت الجنوسي الواضح بين النساء والرجال على الصعيد التربوي وفي المؤسسات التعليمية بصورة خاصة.ويصدق ذلك، بصورة خاصة، على مؤسسات التعليم العالي والجامعات، إذ إن الرجال مازالوا يستحوذون على هيئات التدريس الأكاديمية في جميع المجتمعات.وتشير دراسة أخيرة إلى أن هناك 120أستاذة جامعية / بروفيسورة في جميع الجامعات والكليات البريطانية، وذلك يمثل 4% فقط من مجموع العاملين في قطاع التدريس الجامعي على هذا المستوى. كما تدل دراسة حديثة (The Gauardian,4and5May1999)، على أن النساء في المناصب الأكاديمية على مختلف درجاتها يتاقضين دخلا أقل من نظرائهن الرجال بما يتراوح بين 2000 و4000 باوند سنويا.[61]"

إذاً، يتباين الذكور والإثاث، في المنظومة التربوية، على مستوى الحظوظ والوظائف والأجور. علاوة على ذلك، تحرم البنت، في الدول المتخلفة والنامية والعربية، من الذهاب إلى المدرسة، وتمنع كذلك من الالتحاق بالجامعة أو التوظيف كذلك.


 

المبحث التاسع:  نظريــــة موت المدرسة

يمثل هذه النظرية إيفان إليتش( Ivan Ilitch )  الذي ثار على المدرسة الليبرالية الطبقية والاستعمارية التي تكرس سياسة التخلف والاستعمار، وتساهم في توريث الفقر والبؤس الاجتماعي. لذا، نادى إيفان إليتش إلى إلغاء هذه المدرسة الطبقية غير الديمقراطية في كتابه( مجتمع بدون مدرسة)[62].

 فنظرية موت المدرسة  - حسب كوي أفانزيني-  هي في الحقيقة نظرية "تأثرت تأثرا كبيرا بالعوامل الجغرافية التي أحاطت بها والتي قد تجعل منها نظرية صالحة لبلدان أمريكا اللاتينية، غريبة كل الغرابة عن المنطق التربوي للغرب. لاسيما أننا نجد فيها بعض التساؤلات التي تؤيد مثل هذا التفسير الذي يقصرها على بلدان بعينها، ذلك أن السيد إيليش ينزع أحيانا إلى القول بأن المدرسة ملائمة للعصر الصناعي، وأنها من إرث هو مخلفاته، وينبغي أن تشجب فقط في البلدان المتخلفة حيث لاتستطيع أن توفر الانطلاقة اللازمة لها، وحيث يكون حذفها شرطا لازما لحذف الاستعمار والقضاء عليه، على أنه في أحيان أخرى يطلق أحكاما تنادي بالقضاء عليها قضاء جذريا، ويرى فيها مؤسسة بالية أنى كانت".[63]

إذاً، تهدف نظرية موت المدرسة إلى التخلص من المدرسة الرأسمالية الاستعمارية التي تعمق الفوارق الاجتماعية واللغوية والطبقية والثقافية. ومن هنا، " يشكك إليتش بسلامة التعليم الإلزامي الشامل المطلق اليوم في أكثر أنحاء العالم.كما أنه يؤكد على الترابط بين تطور التربية من جهة والمتطلبات الاقتصادية التي تدعو إلى الانضباط والالتزام بالتراتبية الاجتماعية من جهة أخرى. ويعتقد إليتش أن مدارس اليوم تؤدي أربعة واجبات أساسية هي: تقديم الرعاية التأديبية؛ وتوزيع الناس وفق أدوار مهنية محددة؛ وتعليم القيم المهنية؛ واكتساب المهارات والمعارف المقبولة اجتماعيا.وأكثر ما يجري تعلمه في المدارس لاعلاقة له بمضمون الدروس. فالمدارس تتوخى تلقين الطفل الاستهلاك السلبي.أي: القبول الطوعي الخانع بالنظام الاجتماعي القائم. ولايجري تعليم هذه الدروس بصورة واعية ومعلنة، بل بصورة ضمنية من خلال تنظيم المدرسة وإجراءاتها.إن المنهج الدراسي الخبيء يعلم الأطفال أن دورهم في الحياة ينحصر في أن يعرفوا مكانهم ويلزموه، ويمكثوا فيه قانعين مستكينين.ويدعو إليتش إلى مجتمع بدون مدرسة. فالتعليم الإلزامي اكتشاف حديث، وليس ثمة ما يدعو إلى اعتباره أمرا حتميا لامناص منه. وحيث إن المدارس لاتشجع على إقامة المساواة، ولاتحفز طاقات الفرد الإبداعية، فإن من الممكن الاستغناء عنها بالشكل الحالي.ولايقصد إليتش بذلك إزالة النظم التعليمية بأشكالها كافة.بل إن ما يرمي إليه هو ضرورة تزويد المتعلمين بما يحتاجون إليه من موارد طيلة حياتهم لاخلال مرحلتي الطفولة والمراهقة في حياتهم، وعلى نحو تقتصر فيه المعرفة على فئة من الاختصاصيين.وينبغي في هذه الحالة أن يكون للمتعلمين مجال لاختيار ما يريدون دراسته.كما يتوجب تطوير عدة أطر تربوية تتوافر فيها المعرفة في المكتبات والمختبرات وبنوك المعلومات، مع إقامة شبكات للاتصال عن المهارات التي يتمتع بها مختلف الأفراد.كما يستلزم ذلك توزيع كوبونات مجانية يتمكن بواسطتها الطلاب من الانتفاع من الخدمات التعليمية حيثما يشاؤون.

إن المقترحات التي يرطحها إيفان إليتش تدخل، كما يرى كثير من المحللين، في نطاق اليوتوبيا المثالية الخيالية في المدى المنظور.غير أن عددا من الافتراضات التي طرحها إليتش في السبعينيات من القرن الماضي قد عادت إلى الظهور مرة أخرى في التسعينيات، مع بروز تقانات المعلومات والاتصالات الحديثة.ووجدت بعض هذه الآراء عن شيوع المعرفة الإنسانية سندا لها في عدد من النظريات الحديثة التي ترى أن الحواسب والإنترنت سيحدثان ثورة تخفف جوانب اللامساواة والتفاوت في التربية والتعليم في حياتنا المعاصرة."[64]

وهكذا، تتميز نظرية إفان إليتش بكونها نظرية خيالية لاتنسجم مع متطلبات الواقع الميداني، ولاتساير منطق العقل. ومن ثم، لايمكن إطلاقا بناء المجتمع الإنساني بدون مدرسة، مهما كانت طبيعتها السياسية والإيديولوجية والدينية.

 

وخلاصة القول، تلكم نظرة عامة ومختصرة إلى أهم المقاربات والنظريات والمدارس السوسيولوجية التي تناولت المدرسة فهما وتفسيرا وتأويلا. بيد أن مشاكل المدرسة تزداد اتساعا وصعوبة وخطورة كلما اتسعت القاعدة الهرمية للمتعلمين والمربين والمدرسين. وتستفحل هذه المشاكل أكثر باختلاف الأجيال والأجناس والمنظورات القيمية والإيديولوجية. وكلما ظهرت مستجدات في مجال العلوم والآداب والفنون والتقنيات والإعلاميات وتكنولوجيا الاتصال.

 

 



[1] - خالد المير وآخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية، سلسلة التكوين الإداري، العدد الثالث، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية سنة 1995م، ص:10-11؛ وعبد الكريم غريب: سوسيولوجيا المدرسة، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2009م.

[2] -Parsons, Talcott: The social System.tavistock, London, 1952.

[3] - Merton, Robert K: Social theory and social structure.Glencoe, Free Press, 1957.

[4] - أنتوني غيدنز: علم الاجتماع، ص:74.

[5] -  أنتوني غيدنز: نفسه، ص:74-75.

[6] - وسيلة خزار: الأيديولوجيا وعلم الاجتماع (جدلية الانفصال والاتصال)، ص:209.

[7] - سمير نعيم أحمد: النظرية في علم الاجتماع(دراسة نقدية)،دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الخامسة، 1985م، ص: 210.

[8] - سمير نعيم أحمد: النظرية في علم الاجتماع(دراسة نقدية)، ص: 210.

[9] - سمير نعيم أحمد: نفسه، ص:210.

[10] - خضر زكريا: نظريات سوسيولوجية، الأهالي للطباعة النشر والتوزيع، دمشق، سورية، طبعة 1998م، ص:2012-213.

[11] - أحمد مجدي حجازي: علم اجتماع الأزمة: رؤية نقدية للنظرية السوسيولوجية، دار قباء، القاهرة، مصر، طبعة 1998م، ص:104.

[12] - مارسيل بوستيك: العلاقة التربوية، ترجمة: محمد بشير النحاس،المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1986م، ص:19.

[13] - خالد المير وآخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية، سلسلة التكوين التربوي، العدد3، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية 1995م، ص:12.

[14] - خالد المير وآخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية، ص:12.

[15] -  أنتوني غيدنز: نفسه، ص:75.

[16] -Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron, Les héritiers : les étudiants et la culture, Paris, Les Éditions de Minuit, coll. « Grands documents » (no 18), 1964, 183 p.

[17] - خالد المير وآخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية، ص:15-16.

[18] - Pierre Bourdieu, La Domination masculine, Paris, Le Seuil, 1998, coll. Liber, 134 p.

[19] - R.Collins: The Credential Society, NewYork, Academic press, 1979.

[20] - خالد المير وآخرون: نفسه، ص:13-14.

[21] - خالد المير وآخرون: نفسه، ص:16-17.

[22] -عبد الكريم بوفرة: علم اللغة الاجتماعي، مقدمة نظرية، مطبوع جامعي، جامعة محمد الأول، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة، المغرب، الموسم الجامعي2011-2012م، ص:24-25.

[23] -Bernestein.B : Langage et classes sociales.Ed.De minuit, Paris, 1975.

[24] - Catherine Colliot-Thélène: la sociologie de Max Weber, La découverte, Paris, France, 2006, p:50.

[25] - عبد الله إبراهيم: الاتجاهات والمدارس في علم الاجتماع، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية 2010م،  ص:96.

[26] - نقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع: طبيعتها وتطورها، ترجمة: محمود عودة وآخرون، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثامنة 1983، ص:261.

[27] -Max weber: Économie et société, Poquet, 1995, p. 28.

[28] - فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه: علم الاجتماع، ترجمة: إياس حسن، دار الفرقد، دمشق، سورية، الطبعة الأولى 2010م، ص:47-48.

[29] - أنتوني غيدنز: نفسه، ص:76.

[30] -  لورن فلوري: ماكس فيبر، ص:24-25.

[31]- Boudon.R: L'inégalité des chances, Paris, Armand Colin, 1973.

[32] - علي أسعد وطفة وعلي جاسم الشهاب: علم الاجتماع المدرسي، ص:192.

[33] - علي أسعد وطفة وعلي جاسم الشهاب: نفسه، ص:195-196.

[34] - Boudon .R : Inégalité des chances, la mobilité sociale dans les sociétés industrielles, Armand Colin, Paris, 1973, p : 7.

[35] - عدنان أحمد مسلم: محاضرات في الأنتروبولوجيا (علم الإنسان)، مكتبة العبيكان، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى سنة 2001م، ص:55.

[36] - عدنان أحمد مسلم: محاضرات في الأنتروبولوجيا (علم الإنسان)،ص:55.

[37] - مصطفى تيلوين: مدخل عام في الأنتروبولوجيا، منشورات الاختلاف، الجزائر، الجزائر؛ دار الفارابي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 2011م، ص:119-121.

[38] - عدنان أحمد مسلم: نفسه، ص:53-54.

[39] - عدنان أحمد مسلم: نفسه، ص:54-55.

[40] - Sirota.R : (Approches ethnographiques en sociologie de l’éducation : l’école et la communauté, l’établissement scolaire, la classe), in : sociologie de l’éducation (dix ans de recherches), L’Harmattan, 1990, pp : 180-181.

[41] - زينب شاهين: الإثنوميتودولوجيا: رؤية جديدة لدراسة المجتمع، مركز التنمية البشرية والمعلومات، القاهرة، مصر، طبعة 1987م، ص:76.

[42] - إبراهيم لطفي طلعت و وكمال عبد الحميد الزيات: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار غريب، القاهرة، مصر، طبعة 1999م، ص:145-147.

[43] - خالد المير وآخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية، ص:34.

[44] -Harold Garfinkel: Studies in Ethnomethodology, Prentice-Hall, Englewood Cliffs (NJ), 1967 (trad. fr., Paris, PUF, 2007)

[45] - وسيلة خزار: نفسه، ص:234.

[46] - إرفنج زايلتن: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، ترجمة: محمود عودة وإبراهيم عثمان ، منشورات ذات السلاسل، الكويت، طبعة 1989م، ص:306.

[47] - إبراهيم لطفي طلعت و وكمال عبد الحميد الزيات: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، ص:145-147.

[48] - محمد محمد علي: المفكرون الاجتماعيون: قراءة معاصرة لأعمال خمسة من أعلام علم الاجتماع الغربي،  دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، طبعة 1983م،  ص:414.

[49] - وسيلة خزار: نفسه، ص:239.

[50] - أنتوني غيدنز: نفسه، ص:681.

[51]- Garfinkel Harold: Studies in Ethnomethodology, Oxford, Blackwell, 1984.

[52] - أنتوني غيدنز: نفسه، ص:181.

[53] - أنتوني غيدنز: نفسه، ص:165.

[54] - وسيلة خزار: نفسه، ص:242-243.

[55] - وسيلة خزار: نفسه، ص:242-243.

[56] - Coulon .A: Ethnométhodologie et education, In Sociologie de l’éducation (dix ans de recherche.L’Harmattan, p : 236.

[57] - خالد المير وآخرون: نفسه، ص:34-35.

[58] - خالد المير وآخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية،  ص:34.

[59] -Paul Willis: Learning to labour: How working class Kids get working class Jobs, Saxon House.1977.

[60] - أنتوني غيدنز: نفسه، ص:562.

[61] - أنتوني غيدنز: نفسه، ص:562-563.

[62] - Illich, Ivan: Deschooling Society, Harmondsworth, Penguin, 1973.

[63] - غي أفانزيني: الجمود والتجديد في التربية المدرسية، ترجمة : عبد الله عبد الدائم، بيروت، لبنان، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى سنة 1981م، صص:456-457.

[64] - غدنز: نفسه، ص:560.

 المصدر : جميل حمداوي، سوسيولوجيا التربية ، الطبعة الأولى:2015م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Sociologie de l’education قراءة في كتاب "سوسيولوجيا المدرسة " للمؤلف محمد الشرقاوي

التغيرات القيمية التي عرفتها الاسرة المغربية