العمل كطقس وايماء المنهجية

العمل كطقس وايماء المنهجية 



كما ذكر سابقا، فإن الهدف النهائي للتعليم هو إنجاز الفرد والوصول به الى الكمال، وكان هذا واضحًا بالفعل في رؤية كومنيوس، واتخذ صفة جديدة في مفهوم هومبولت للتعليم العام الفرد باعتباره أفضل مؤهل لعالم العمل المنتج. وبما أن الأفراد يعتمدون على التعليم، فهم يعتمدون أيضًا على العمل من أجل تنمية أنفسهم، والمجتمع والجماعة. وهذا الأمر كان صحيحًا منذ بداية الثقافة الغربية، وفي التقاليد اليونانية والمسيحية التي يعتبر فيها العمل دائمًا ضرورة أنثربولوجية للوجود الإنساني. وبالتالي، يُمكن أن ينظر إلى العمل والتعليم على أنهما أهم الاستراتيجيات الأساسية للكمال البشري والإنجاز، والتي يمكن إعادة بناء نجاحها أو فشلها في تحليل العملية الحضارية.

ويفسح هذا الافتراض المجال لظهور خطوتين منهجيتين، ومن أجل فهم الأهداف التي تقود العمل والتعليم بوصفها استراتيجيات للكمال، فمن الضروري إجراء تحليل تاريخي وإثنولوجي للاستراتيجيتين، ومن وجهة نظر المحتوى فإن العمل والتعليم يختلفان عن بعضها البعض كاستراتيجيات للإنجاز اعتمادًا على الثقافة المعنية والفترة التاريخية. وفي هذا الصدد، فإننا اليوم أكثر اهتمامًا بفهم الاختلافات بين الثقافات، والفترات التاريخية بدلًا من التمسك بتصريحات عالمية مركزية -اوروبية مفترضة غير متوقعة. وإن مبادئ مثل العمل والتعليم والكمال تعني أشياء مختلفة في ثقافات مختلفة، وفي فترات تاريخية، وقد يؤدي استخدام هذه المفاهيم في مواقف مختلفة إلى ظهور خطر افتراض الإشارة إلى الشيء نفسه عندما قد يكون المقصود في الواقع شيء مختلف، فالمهمة الخاصة للأنثروبولوجيا التاريخية هي الكشف عن الاختلافات المخبئة تحت مصطلح المفاهيم، وتطبيقها على المفهوم.

التوسع وزيادة النقص في العمل: تطور المعضلة

لقد كان إستحداث الأسبوع ذو الاربعة أيام بدون أجر كامل من مجموعة فولكس واجن في تشرين الأول / أكتوبر 1993 مؤشرًا واضحًا على أن العمل بدأ ينفد في مجتمع العمل، وكتبت هانا أرندت  في عام 1958، وبنظرة استشرافية تنبئية الآتي: "في المتجر بالنسبة لنا هو احتمال وقوع مجتمع العمل، حيث يتضمن النشاط الوحيد المتبقي الذي يحدد المجتمع، ألا وهو العمل، وقد نفد. ما الشيء الذي يمكن أن يكون أكثر كارثية من هذا؟  تعرف جميع الدول الصناعية نفسها إلى حد كبير على أنها مجتمعات تعتمد على العمل،  والعمل هو النشاط المتبقي الوحيد الذي يعرف المجتمع. ومنذ بداية القرن الخامس عشر، وقبل كل شيء أصبح العمل على نحو متزايد السمة المميزة للحياة منذ ظهور العصر الحديث والتصنيع. فهو يلعب دورا هاما في الفهم الذاتي للفرد والمجتمع. ونقص لعمل أو غيابه يؤدي حتما إلى أزمات في الهدف للفرد والمجتمع.

ولهذا السبب، فإن البطالة هي "فضيحة أساسية في المجتمع". فهي تحول دون تمكّن الفرد من تلبية الحدّ الأدنى اللازم لبقائه. والبطالة هي انتهاك، واعتداء على السلامة، والنزاهة الجسدية والعقلية والروحية للفرد المتأثر، ويتأثر حاليًا بالبطالة أربعة ملايين فرد في ألمانيا، وعشرين مليونًا في الاتحاد الأوروبي، وخمسة وثلاثين مليونًا في أوروبا؛ فالأمل المرجو في استحداث فرص عمل كافية من خلال النمو الاقتصادي، للتغلب على البطالة الراسخة تبين بأنه مجرد وهم، وقد جاء تفسير حجم البطالة الكبير نتيجة النفقات المتزايدة في الرواتب، ونتيجة نظام دفع متزمت أصبح قاصرًا. وذلك نتيجة للأسباب الآتية:

- تحويل خطة الاقتصاد لألمانيا الشرقية إلى اقتصاد الشركات الحرة.

- الوضع الاقتصادي العالمي.

- - الثورة التكنولوجية التي يتجاوز فيها معدل الإنتاجية المعتمد على التكنولوجيا معدل النمو، مما يؤدي إلى فقدان المزيد من فرص العمل أكثر من تلك التي يمكن تحقيقها من خلال النمو.

وعلى الرغم من أن ظاهرة البطالة طويلة الأمد تم الاعتراف بها في واقع العالمين الاقتصادي والسياسي، فإنه وباستمرار، يتم تجنّب الهجوم السياسي على البطالة. وبدلًا من ذلك، يتم الحفاظ على هذا الشكل من البطالة عن طريق التغلب عليه من خلال التدابير المجربة والمختبرة الرامية إلى النمو التي يطرحها السياسيون والاقتصاديون. وفي الوقت نفسه، يتم الإشراف بشكل متعمد على الحقائق الآتية: شهدت فترة الثمانينيات نشوء نمو اقتصادي قوي مع زيادة كبيرة في الدخل المُتاح، غير أن هذا النمو الاقتصادي كان فعالًا بشكل جزئي فقط من اجل استحداث فرص للعمل، مما أدّى إلى تقسيم المجتمع إلى جزأين؛ وهما: جزء يشارك إلى حدّ كبير في النمو الاقتصادي، والآخر مستبعد من النمو الاقتصادي بشكل متزايد، فلا يمكن تقدير الآثار الاجتماعية والسياسية المترتبة المرافقة لهذا التطور في نشوء طبقتين من المجتمع، يتزايد فيها عدد السكان المتضررين من الفقر، بمن فيهم العاطلون عن العمل، وطالبو المعونات الاجتماعية والمشردون،حيث أن التطرف السياسي وزيادة العنف دلالة واضحة نتيجة الصراعات الاجتماعية المتزايدة.

إلى جانب الحياة الأسرية والاجتماعية، فإن العمل هو الجانب الحياتي الذي يحدد من خلاله معظم الأفراد في المجتمع هدفهم. ويمكن تلبية المتطلبات المادية واكتساب التقدير الاجتماعي والشخصي من خلال العمل،كما يحتل العمل أهمية اجتماعية وذاتية، ولا يمكن للمجتمع ولا للفرد التمتع بحرية بالمعاني المختلفة للعمل وتحولاته، وبالنسبة للفرد، فإن تشكل الهدف من عمله يتم عبر مسار حياته بأكملها، وتبدأ عملية تحديد الفرد لهدفه عن طريق العمل في الأسرة، وتستمر في المدرسة، وتزداد في عالم العمل؛ فالحياة مبنية ومشكلة وفق القيم والمعايير المرتبطة بالعمل، ومثل هذه القيم تشمل التحفيز والالتزام، والعقلانية والدقة، والضمير، وإتمام الواجبات والإبداع والاستعداد للابتكار. ويتم تشجيع هذه القيم في مرحلة الطفولة، وبعد ذلك يتم تطويرها باستمرار وممارستها، وفي النهاية، فإن عالم العمل مؤسسة اجتماعية بحد ذاتها تقوم بتشريب هذه القيم في جسد الفرد.

ويواجه العمل القدرة التنافسية، ويضمن الوجود، ويساعد الفرد على إيجاد هدف وهوية. فإذا استنفذ العمل من المجتمع، أو لم يعد قادرًا على تحمل تكاليف العمل، فيجب اتخاذ قرارات جديدة بشأن الوظيفة الاجتماعية للعمل وإعادة توزيعه، ويجب تحليل أشكال تقليل وقت العمل فيما يتعلق بعمليات اتخاذ مثل هذه القرارات، ومن غير المتوقع أن يتغير التوجّه الذي أدى إلى خفض مدة العمل الأسبوعية في القرن العشرين بمقدار النصف من (70) إلى (35) ساعة، ووقت العمل من (110,000 )إلى (55,000) ساعة.وقد أدى اختراع التكنولوجيات الجديدة إلى نقص متزايد في العمل، في حين أن هذه التكنولوجيات تؤدي إلى النمو الاقتصادي، فإنها تسبب أيضًا انخفاضًا في العمل المُتاح في المجتمع نتيجة الترشيد المصاحب، والزيادة في الكفاءة. وقد أثر تخفيض فرص العمل على فروع الزراعة والصناعة بوجه خاص. ولكن حتى التوسع المتسارع في قطاع الخدمات، الذي يوظف اليوم أكثر من 50 % من القوة العاملة، لا يمكنه أن يعوض عن تخفيض العمالة نتيجة الترشيد وزيادة الكفاءة.

وقد اقترح الاقتصاديون الفصل الجزئي بين وقت العمل، ووقت عمل الشركة كإجراء مهم لزيادة المرونة، وبالتالي يجب أن يكون هذا التدبير متساويًا، حتى تتمكّن الشركات من ربط أوقات العمل الطويلة للشركة مع ساعات العمل الفردية وأكثر مرونة، ويجب أيضًا أن تكون هناك فرص لأوقات العمل التي تحمل متغيرًا موجه للقدرات، يشمل العمل بدوام جزئي، وأسابيع عمل بالتناوب، والإجازات، وأوقات العمل الطويلة للشركة، ويستنتج الخبير الاقتصادي والخبير المالي بيرت روب من هذه الاعتبارات ما يأتي: "فيما يتعلق بالمحتوى، سيكون عمل المستقبل مؤهلًا بشكل أكبر وسيكون أكثر تعقيدًا، ومتجهًا نحو معالجة المعلومات، وسيتم تنفيذ هذا المحتوى المتحول من قبل القوى العاملة التي تزداد أعدادها لتكون من الإناث، وكبار السن، والصغيرة في الحجم، والمهاجرة، في ساعات عمل أقل أسبوعيًا، ولكن على مدى فترة أطول من أوقات العمل وفي أشكال تنظيمية أكثر مرونة والتي ستكون موجهة بصورة متزايدة نحو الاحتياجات الفردية لشركات محددة. وعلاوةً على ذلك، فمن المؤكد أن مستقبل العمل لن يكون متسمًا بثقافة الزمن المعاصر المتضمن على عطلة نهاية الأسبوع الحرة، وعلى هيمنة ظروف العمل العادية من أسس القانون الصناعي الذي ينص على  الوفاء بفترة العمل.

وتكمن المشكلة مع هذه الأفكار بأنها موجهة حصرًا نحو الشركات، وقدرتها على المنافسة، كما أنها تولي اهتمامًا أقل للفرد، الذي غالبًا ما يرتبط لديه فقدان العمل بالذنب، والشعور بانخفاض القيمة، وبالنسبة للفرد، يعني العمل أكثر بكثير من مجرد تأمين الوجود المادي؛ فهو يوفر الشعور بالأمان الشخصي والاجتماعي، ويزيد من التقدير واحترام الذات وتحقيقها.

ان الاعتبارات الآتية تثير عدة تساؤلات، وهي على النحو الآتي:

- كيف يمكن منع ربط الازدهار مع الضمان الاجتماعي من تدمير القدرة التنافسية؟

- كيف يمكن منع الفجوة بين العاملين والعاطلين عن العمل لفترة طويلة من أن تؤدي إلى أزمات اجتماعية، مما يعرض الديمقراطية للخطر؟

- كيف يمكن توزيع العمل وتنظيمه، بحيث تبقى القدرة التنافسية سليمة، على الرغم من ارتفاع تكاليف الموظفين بالمقارنة مع البلدان ذات الأجور المنخفضة؟

- هل يمكن إنشاء "سوق توظيف ثانٍ بين سوق العمل والبطالة بأموال ضريبية للقسم الأكبر من السكان؟

-  هل من الممكن توسيع نطاق العمل بأجر، بحيث يتم تحديد قطاعات عمل جديدة؛ كالأعمال المنزلية، ورعاية المسنين والأنشطة التطوعية؟

-هل من الممكن تصور أشكال من الاقتصاد تعتمد على الكفاف، بحيث تنتج الأسر الريفية على سبيل المثال جزءًا من غذائها؟

-هل يمكن إيجاد أشكال جديدة من العمل، وطرق الحياة من خلال إيجاد إصلاح ضريبي بيئي محايد من ناحية كمية، يتم في إطاره زيادة إنتاجية الطاقة بدلًا من إنتاجية العمل؟

إيماءات العمل

يبين هذا الإيجاز الوضع الاجتماعي الراهن للعمل، حيث أن إيماءات وطقوس العمل التي تطورت في ظل المجتمع الصناعي المنظّم الرأسمالي المدني، تعيش حالة متأزمة؛ فهي ليست مجرد استراتيجيات جديدة فقط لخلق، وتنظيم العمل الضروري، ولكنها أيضًا أفق جديد لفهم العلاقة بين العمل والحياة، وإذا أصبح العمل في جميع مراحل العملية الحضارية في أوروبا العامل الحاسم لمعنى الحياة، فلابدّ أن يخضع تقييم العمل للفحص، مما قد يسفر عن آفاق جديدة للعلاقة بين العمل والتعليم، فعلى جدول الأعمال، هنالك النسبية في معنى العمل للنتيجة الإنسانية من الهدف، فضلًا عن التعددية الجذرية للقيم المتصلة بالحياة، والتي تبدو ظاهرة بالفعل، وبشكل واضح في أجزاء من الأجيال الأصغر سنًا، وهناك إمكانيات مُتاحة لتشجيع تعددية أقوى في العوامل المتصلة بالحياة، ويكمن أحد هذه العناصر في إعادة تكوين البناء التاريخي لعلاقة الفرد بالعمل الذي يمكن من خلال سياقه الاعتراف بالعمل على أنه بناء اجتماعي، ويكشف التركيز على التكيف التاريخي للعمل عن طابعه المشيد، ويشير أيضًا إلى التغير التاريخي لعلاقةالفرد بالعمل، الذي لعبت فيه الكالفينية والرأسمالية والصناعية دورًا مهمًا.

عندما يُنظر إلى العمل من حيث الإيماءات والطقوس، تظهر أبعاد جديدة بالكاد تم طرحها في الخطابات المتعلقة بموضوع العمل ومستقبله، ويشير فهم العمل كإيماء إلى حقيقة أن علاقة الفرد بالعمل - وبالتالي بالعالم وبالأفراد الآخرين - هي تعويد يتم إدماجه منذ فترة طفولة الفرد المبكرة. وتشير الصلة بين العمل والطقوس أيضًا إلى الأهمية الأساسية للعمل من أجل نشوء المجتمع، ونشوء تماسكه الداخلي، ويتم التعبير عن طابع العمل بآثاره المستمرة في طقوسه باعتباره "أداء" ثقافي على الخشبة.

وإذا كان لابد من التحدث عن ايماءة العمل،  فيجب فهم أن العمل هو حركة جسدية، فالحركات الجسدية المهمة تفسر على أنها إيماءات، تشكل البنية الأساسية من دون  توضيح تام لما تمثله، والأشكال التي تعبر عنها، وهناك فرق تام بين إيماءة العمل كتمثيل جسدي، وكشكل تعبيري، وبين معناها اللغوي المنقول بوساطة التفسيرات، فإيماءات العمل تتضمن محتوى حقيقي يتجاوز ما يُقصد بها.

والإيماءات هي عبارة عن محاولات للخروج من الحالة التي تكون في الجسم فقط، والاستفادة من الجسم، ولا بد من شرط مسبق لحدوث ذلك فهي حالة غريبة الأطوار للأفراد. وهذا الأمر هو الذي يحل محل الحيوان في البشر، ويسمح للبشر الخروج من أنفسهم، والتفاعل مع العالم، ومع أنفسهم، فإيماءة العمل تستند إلى هذه القدرة البشرية، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا باللغات، والخيال والعمل.

وعلى النقيض من تقليد التعبير الجسدي، فإن الإيماءات قابلة للانفصال عن الجسم، وعن مواقف اجتماعية محددة، وبالتالي يمكن تشكيلها وتعلمها، في حين أن التعابير والشعور، والشكل والمحتوى بشكل عام، والمحتوى العاطفي، وأشكال التعبير المادي لا يمكن تمييزها عن بعضها البعض في المحاكاة، أما في الإيماءات، فهذه الجوانب المختلفة تكون واضحة، مما يسمح لها بأن تكون مصممة لتصبح مقصودة. وبما أن البشر ينظرون إلى الإيماءات بأنها تعبير عن أنفسهم من الداخل والخارج، فإن الإيماءات تعد من أهم أشكال الخبرة والتعبير البشري، حيث يتجسد البشر في الإيماءات، ويختبرون أنفسهم في هذا التجسيد، ويحول السلوك الاجتماعي المنطوي على الإيماءات والطقوس والأدوار- الهيئة المادية - إلى شكل من أشكال الأصول، ففي عملية التحول هذه، يلعب العمل فيها دورًا مهما يجعل الوجود البشري أمرًا ممكنًا.

وللإيماءات وظيفة مهمة  في عملية تنمية الذات البشرية، ففي جوهرها، ما هو داخلي وخارجي يعد شيئًا واحدًا، وفي الوقت نفسه، وبفضل الصفة الإنسانية المتمثلة بالانفتاح على العالم، فإن الإيماءات تحدّ من هذا الوضع الداخلي / الخارجي للوجود الإنساني من خلال ما هو ملموس.

وعلاوةً على ذلك، فإن أهمية الإيماءات تتغير وفقًا للزمان والمكان، وفيما يتعلق بنوع الجنس والطبقة الاجتماعية، فمن الممكن التعرف على الاختلافات. من خلال ذلك، فالعديد منها محددة وفق الجنس. وأخرى لا تتضمن على أية فروق معينة، وعلى الرغم من ذلك، فإن إيماءات العمل محددة وفق نوع الجنس والطبقة الاجتماعية، وغالبًا ما تكون مرتبطة بمساحات اجتماعية، ونقاط زمنية، ومؤسسات؛ فالمؤسسات تحقق مطالبها بالسلطة من خلال ممارسة إيماءات محددة مؤسسيًا،  يمكن أيضًا فهم العمل بأنه مؤسسة اجتماعية، يتم تنفيذ مطالبها من خلال مجموعة متنوعة من الآليات.

من بين الاستراتيجيات المستمرة لفرض العمل كشكل مهيمن من أشكال الحياة، استراتيجية إضفاء الطابع المؤسسي على إيماءة القيام بفعل، وإيماءة العمل في جسم الإنسان. وفي المنهج المعتمد على الظواهر، يحاول فيليم فلوسر تحديد إيماءة القيام بفعل، والتي تعد أمرًا أساسيًا لإيماءة العمل، ويشير إلى تقابل الأيدي كشرط إنساني يدعو إلى "إشراك كلتا اليدين في تحدّي، أو مشكلة أو شيء. وهذه الإيماءة الكاملة هي إيماءة القيام بفعل، وهي تضغط للأسفل على الشيء من كلا الجانبين، بحيث يمكن لكلتا اليدين أن تلمسا بعضها البعض، ونتيجة هذا الضغط، يتغير شكل الشيء، فهذا الشكل الجديد من المعلومات ينطبع على العالم الحالي، كونه وسيلة للتغلّب على الدستور البشري الأساسي الأحادي، وفي الشيء يتم جلب كلتا اليدين معًا بتوافق، فتصل كلتا اليدين إلى عالم الأشياء.  وبالتالي تمسك بالشيء، وتؤدي إلى  تغير في شكله؛ فإعادة التشكيل المستمر تحت الضغط المُضاد من قبل الشيء يشكل "إيماءة العمل". ولكن في إيماءة العمل، كلتا اليدين تخترعان أشكال جديدة، وتقوم بطبعها على الأشياء،  وتنتزع الأيدي السياق الموضوعي لهذه الأشياء بعيدًا، وتستخدمه ضد السياق، كما لم يتبق أي عالم اجتماعي للأيدي المجهزة بالأدوات التي نسيت هدفها الأصلي، فإيماءتهم للقيام بفعل ما غير سياسية ولا أخلاقية.

إن إيماءة القيام بفعل ما تجعل إيماءة العمل ممكنة، وتظهر إيماءة العمل من إيماءة غير معروفة للقيام بفعل، وعبر مسار العملية الحضارية. ظهررت العمليات التي أدت إلى تطور البشر من صيادين، ورحل وجامعيين، وسعيهم إلى الاستقرار، فشكل الوجود المعتمد على الاستقرار يتطلب تشكيل وتحديد الأرض المطلوبة، وذلك ليتم تطوير أشكال محددة وفق الجنس، وغيرها من أشكال تقاسم العمل، ويرافق ذلك التمييز بين عالم العمل، وتطور التسلسل الهرمي الاجتماعي. ونتيجة لذلك، ظهرت بنُى اجتماعية معقدة نما داخل إطارها إنتاج، وتفاوت ثقافي معين، وتلعب الأسطورة والدين والطقوس دورًا مهمًا هنا، وتسهم إلى حد كبير في تطور وتشكل إيماءة العمل.

وتساعدة الطقوس في انتاج الواقع الاجتماعي للعمل على حدوث تغييرات وتفسيرها والمحافظة عليها، حيث يمكن أن تُفهم بأنها عمليات جسدية مشفرة رمزيًا. ويتم تسجيل المعايير الاجتماعية للعمل في جسم الإنسان عن طريق الطقوس التي تقوم بها المجموعات في المساحات الاجتماعية، والمعايير المحددة، تسمح عمليات التسجيل هذه أيضًا بإدماج علاقات القوة الاجتماعية، إذ يجري استعراض مجتمعي وثقافي ذاتي للفرد في طقوس العمل التي يتم في إطارها اكتساب القدرات اللازمة، وتأكيدها وتحويلها إلى معرفة عملية.

وتبين الأمثلة الثلاثة الآتية  كيفية انخراط الأسطورة والدين والتحديث في تطوير إيماءة العمل التي تمر حاليًا بأزمة كبيرة:

وجهات نظر تاريخية: اليونانية القديمة والمسيحية

في العصور القديمة اليونانية، وفي أسطورة بروميثوس، وذلك كما رواها هيسيود، تعطي في الواقع مؤشرات مهمة  حول أهمية العمل في تشكّل الشعوب الأوروبية.وقد دار جدال بين بروميثيوس الشهير الماكر وحكمته- وزيوس، الذي يتميز بصفة آلهية، وبحكمة أعلى، والحكاية عبارة عن تصوير مبارزة بين الإنسان والمكر الإلهي، من سيخدع من؟ ومن سيُخدع؟ ويتم تبادل الهدايا الوهمية بينهم، ويخرج زيوس من الحجة كما المنتصر، ويعاقب البشر وممثلهم بروميثيوس على خطيئة مقارنة أنفسهم بالآلهة. وأخيرًا، يتم تخصيص أماكن لهم. ووفقًا لحكاية هيسيود، يحاول بروميثيوس خداع زيوس من خلال تقديم أجزاء من أضحية بقرة ملفوفة بشكل جذاب، ولكنها ليست الأجزاء المغذية، ويرى زيوس هذه المحاولة في الخداع، وفي ثورة غضب، يمنع زيوس البشر بعد ذلك من استخدام النار السماوية التي كانت حتى تلك اللحظة تحت تصرفهم، ومن دون علم زيوس, يسرق بروميثيوس النار ويأخذها إلى البشر، إلا أن استفزاز الآلهة لن يمر دون عواقب وخيمة؛ فيرفض زيوس حيازة البشر للنار، وتخفي الآلهة الذرة التي يقتات عليها البشر. حيث كان البشر من قبل يختارون ببساطة الذرة التي تنمو من تلقاء نفسها. لكن الآن، ولأنها أصبحت مخفية عنهم، لابدّ لهم من زراعتها بأنفسهم، ومن ذلك الحين فصاعدًا أصبح العمل الشاق والحرث والبذار، والحصاد أمورًا ضرورية للإنسان لكي يطعم نفسه، واعتبر العمل عقاب للإنسان الذي تجرأ على منافسة الآلهة ويعطي العمل البشر ما يستحقونه؛ فالآلهة لا تحتاج الطعام والحيوانات، فهي لا تواجه صعوبة في العثور عليه. إنما البشر فقط مجبرون على العمل لإطعام أنفسهم، ونتيجة لغضبه، قرر زيوس إعطاء البشر شيئًا من شأنه أن يجعل حياتهم أكثر تعقيدًا، فقدم لهم هدية تتضمن الشر، ولكن مغطى بقشرة مغرية، ألا وهي باندورا الأمرأة، هدية كل الإلهة. حيث تعد الطُعم، ووسيلة الخداع التي لا تزال طبيعتها الحيوانية مخبئة، فهي تبتلع الطعام الذي يتم إنتاجه عن طريق العمل، فيصبح البشر عبيد بطنها الذي هو أصل احتياجاتهم، وجهودهم ومخاوفهم، وتمثل باندورا النار التي أعطاها زيوس للبشر مقابل النار المسروقة، وفي الوقت نفسه يتم أخذ شيء آخر، فهي تخلط بين الجيد والسيء، وبالتالي فإن غموضها أمر حتمي، وجميع العناصر المذكورة في الأسطورة ترتبط ببعضها ارتباطًا وثيقًا وهي: النار المسروقة، والمرأة والزواج، وزراعة الحبوب والعمل، وتعمل هذه العناصر على تخصيص مكانة البشر، وذلك بين الآلهة والحيوانات، والتي يمكن تعريفها على النحو الآتي:

- البشر ليسوا أسيادًا على مصائرهم، لذلك يجب عليهم تقديم الأضاحي للآلهة، للفوز برضاها.

- يحتاج البشر إلى النار لإعداد الطعام، وصناعة الأدوات.

- يحتاج الذكور إلى الإناث لضمان بقاء النوع الإنساني.

- يحتاج البشر للعمل في حقول الحبوب،وذلك من أجل اطعام أنفسهم.

تعزز الأسطورة الفكرة القائلة بأن جميع الهدايا المقدمة من الآلهة هي هدايا ذات حدين؛ ومع ذلك فإن البشر لا يعرفون طابع هذا الغموض مسبقًا، وينطبق هذا الأمر أيضًا على العمل، الذي يعد من ناحية بأنه عقاب، ومن ناحية أخرى فرصة للتنمية البشرية.

وبقيت هذه النظرة تجاه العمل كنشاط لا يليق بالبشر حتى في زمن المدن اليونانية، فبالنسبة لليونانيين، كان القيام بالعمل ببساطة لإنتاج وتوفير السلع اللازمة للحياة، وعلى هذا النحو كانت مهمة العبيد أيضًا. وكان يطلق عليهم أويكيتاي ( (oiketai، إذ كانوا يعتبرون من الأشياء المنزلية، وعلى النقيض من العبيد الذين ينتمون إلى المنزل، فهناك الحرفيون الذين يعرضون عملهم بشكل علني، ويكنهم التحرك بحرية في الأماكن العامة لتحقيق هذا الهدف، وأصبح يطلق على هؤلاء الحرفيين فيما بعد بانوسوي (banausoi) ، وعلى الرغم من أنهم كانوا يؤدون أعمالًا بدنية إلا أنه لم يُسمح لهم بالمشاركة في الشؤون العامة، وبالنسبة لليونانيين الذين يعيشون في المدن، يعد العمل البدني الذي يهدف إلى الحفاظ على الجسم، نوع من أنواع العمل ذي المنزلة المتدنية، فالعمل أو النشاط البشري الحقيقي، هو المشاركة في الحياة السياسية، التي تبدأ في الوقت الذي يكون فيه ذلك العمل الضروري للحفاظ على الجسم قد تمت معالجته، وبالتالي، فإن العبودية تسمح للحياة ذات الأنشطة المنجزة بأن تكون حرة.

ولا يختلف أصل العمل اختلافًا كبيرًا في التقليد اليهودي المسيحي، حيث يبدأ التاريخ البشري مع الطرد من الجنة، والذي يعد أيضًا عقوبة لانتهاك الوصية الإلهية وهنا أيضًا، يلعب العمل المنُاط بالبشر دورًا حاسمًا. « فالأرض ملعونة بسببك، وبالتعب تأكل منها طيلة أيام حياتك، كما انها تبنت لك والشوك والحسك، ومنها تأكل عشب الحقل، بعرق جنبيك تأكل الخبز حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب، وإلى التراب ستعود» (سفر التكوين). فكما هو الحال في أسطورة بروميثيوس، ففي سفر التكوين، يتم تحديد عناصر معينة تميز الحياة بعد النزول من الجنة، وهي على النحو الآتي :

- المرأة المغرية، الجالبة للشر .

- الجنس واللغة والوعي.

- العمل .

 ويلاحظ أنه تم التأكيد على المكانة المهمة للعمل مرة أخرى في الكتاب المقدس "الذي لا يعمل لا يأكل"؛ فالعمل واجب للرب والبشر الآخرين، وفي الحكايات الرمزية التي تتعلق بالمواهب المنُاطة، يطلب الرب من البشر أن يتكاثروا ويتناسلوا، وهذا ما مُنح لهم أصلاً، كما طُلب منهم العمل؛ فالرب يطلب من البشر أن يعملوا، ومن خلال هذا العمل يثبت البشر جدارتهم للرب.

ويتضاعف واجب الإنسان في العمل في ظل حكم بينديكتين، وذلك  في العصور، الوسطى ليصبح مطلوب منه الصلاة والعمل، وهنا يصبح العمل شكلاً من أشكال العبادة ، أو خدمة الرب، وهناك تقسيمات أخرى في سياق تقاسم العمل وذلك وفقا لنقابة التجار أو الحرفيين أيام العصور الوسطى. وبالتالي فإن الفروق بين الحرفيين في المدن في العصور الوسطى أصبحت ظاهرة حيث انشأ أعضاء كل نقابة أعمالاً في الشارع نفسه، أو في جزء من المدينة، وأقامت حركة توماس الاكويني تسلسلاً هرميًا لمجالات العمل؛ إذ حلّت الزراعة في أسفل القائمة، تلاها الأمور الحرفية والروحانية، والرهبان والراهبات، أما الكهنة فهم الأعلى رتبة من البقية، وذلك بتكليف من الرب، فمن واجب الكهنة رعاية نفوس البشر، من أجل نجاتهم بعد الموت.

على النقيض من توماس الأكويني، الذي يقيم الروحية فوق العمل العلماني، فإن لوثر يعتبر الأشكال الدنيوية والروحية للعمل متساوية، وهنالك بعض الاقتراحات التي يقدم فيها لوثر العمل الدنيوي على العمل الروحي الرهبانية، ويمكن الاختلاف الجوهري عن توماس الأكويني  في حقيقة أن لوثر يحترم بشدة كل عمل بغض النظر عن نتائجه، ولذلك فإن تقييم العمل ينتقل من نجاحه إلى روحه وقيمه الأساسية، حيث يرى لوثر أن قيمة العمل تكمن في روحها لا في غرضها أو نجاحها، والسبب في هذا التقييم المتساوي لكل شكل من أشكال العمل هو أن جميع أشكال العمل يتم تعريفها من خلال الخلق الإلهي، وبالتالي، يُنظر إلى العمل الممتهن كإرادة للرب. ويوضح التقييم المتساوي لمختلف أشكال العمل حسب وجهة النظر اللوثرية، بأن العمل لم يُعد ضروريًا لتحقيق الخلاص؛ فالخلاص يُمنح عن طريق رحمة الرب وحده، وبالتالي، فإن شكل  عمل المرء لا يحتاج إلى رفاه للنفس، بل يمكن تحديدها من خلال فائدتها للنظام العالمي. وبهذه الطريقة، يأخذ العمل الاستقلال الذاتي العالمي القائم على الرب، فهذه الطريقة لا تحتاج الى خدمة الرب المباشرة، ولكن يمكن أن تركز بشكل كامل على تعزيز رفاهية الإنسان، وبالقدر الذي يخدم فيه العمل البشر، فإنه يخدم الرب، ويكمن حجم قيمته الأخلاقية في استخدامه من قبل البشر الآخرين، ومن خلال هذه الإشارة إلى الأفراد الآخرين، يصبح العمل مجال للتعبير عن الحب المسيحي.

بالنسبة لكالفن أيضًا، يُعدّ العمل متجذرًا في طاعة الرب؛ فهو يعرض العمل كوسيلة للانضباط الذاتي، والزهد بشكل أكبر من لوثر، وتبعا لذلك، يجري تسويغ العمل وتوجيهه نحو تكثيف الإنتاج، ووفقًا لتعاليم الكالفينية من تحديد المصير، لا يدرك الفرد، ومن حيث المبدأ إن كان قد تم اختياره أم لا، ومع ذلك، إذا تم اختياره، فاختيار الرب واضح في السلوك الأخلاقي لهذا الفرد، مما ينطوي على رقابة حسية صارمة، وعلى طاعة الرب في العمل، وعلى الاجتهاد والانضباط الذاتي، وعكس ذلك، يمكن استنتاج القدر من هذا السلوك، حيث يصبح الزهد العقلاني للعمل علامة على اختياره، والأكثر من ذلك إذا توجت جهود الفرد بالنجاح.

وبالتالي، فمن المنطق أن يسعى الفرد إلى أن يكون ناجحًا في عمله، ويجب أن يخضع جسد الفرد وحواسه ومشاعره لمتطلبات العمل؛ فالنجاح يتطلب الكثير من الجهد، وفي الوقت نفسه، لا يعد العمل في حّد ذاته، مسألة للسعادة ، أو التمتع بنجاحه، فإعطاء العمل مثل هذه القيمة سيفضي إلى ارتباط غير مقبول بالأمور الدنيوية، ومثل هذا الموقف يؤدي إلى نسيان أن العمل والنجاح عبادة ، ويشكلان تعظيمًا للرب، حيث يمثل العمل هالة من القداسة للرب والزهد الذاتي المقدس للبشر، ولا يؤدي تسويغ العمل إلى الراحة من الشعور بالجهد والمشقة، بل إلى تحسين نتائج العمل، وبسبب هذا الأعطية الإلهية للهدف، لا يمكن أن يكون هناك ارتياح من نتائج العمل.  فالعمل مهمة دائمة لا تنتهي أبدًا، وعلى مرأى الرب، ما هو منجز لا يضيف أي شيء ، ويطالب بمزيد من التكثيف والتمدد، ويتصور ويحلل ماكس ويبر الصلات بين مواقف الأفراد من العمل والتصنيع ، وانتشار الرأسمالية.


 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Sociologie de l’education قراءة في كتاب "سوسيولوجيا المدرسة " للمؤلف محمد الشرقاوي

نظريــات سوسيولوجيـــا التربية

التغيرات القيمية التي عرفتها الاسرة المغربية