التعليم المبني على التقوى وحركة المدرسة الصناعية
التعليم المبني على التقوى وحركة المدرسة الصناعية
بعد كومنيوس، استمرت فكرة
التعليم الإجباري للشعب المسيحي في القرن الثامن عشر على التعليم المبني على
التقوى، الذي أنشأه اوغست هيرمان فرانك، وخلافًا لكومنيوس, يُعدّ هذا التعليم
أنثروبولوجيا تفاؤلية.
ونتيجة للخطيئة الأصلية
المتوارثة التي لا يمكن إلغاؤها من خلال العمل الصالح، إنما عن طريق الاعتقاد نفسه) الخلاص الذاتي), يُعدّ كل
طفل سيئًا بالفطرة، بمعنى أنه مجهّز بعقل شرير خاص به, والتعليم مصمم لكسره من أجل
تحقيق اختبار الذات الداخلية و لتطوير التقوى الحقيقة للقلب، حيث أصبحت المهمة
الرئيسة للتعليم تطوير تقوى القلب، والأعمال المسيحية، وأصبحت الصلاة، والعمل والعقوبات الشديدة على الغياب من أساليب التعليم
لتقوية الروح ضد رغبات الجسد، كما أصبح
التعليم تعليمًا يطغى عليه الزهد، والتنسك، وانجاز الواجب، بالإضافة إلى ذلك أصبح
تعليميًا احترافيًا حسب لوثر، وكان غراف لودفيغ فون زنزندورف طالبًا لدى هيرمان
فرانك، ومؤسسًا لنزعة هيرنهتر الورعية، الذي شكّل الهدف التالي للحياة (نحن لا
نعمل من أجل الحياة, بل نحيا من أجل العمل, وعندما لا يكون هنالك ثمة عمل، فأننا
نشقى أو نهلك)، وبناءً على هذا التوجّه، فإن الروتين اليومي لميتم هيرنهتر يتكون
من ثلاث ساعات من الصلاة الصامتة، وست ساعات من العمل البدني، وخمس ساعات من
الدروس.
وتقوم نظرية التعليم
القائم على التقوى والمدرسة الصناعية على أن الاجتهاد والمثابرة من أهم أهدافها
التعليمية؛ فلديها بعض النقاط المشتركة مع فكرة التعليم الذي يمتلك رؤية نحو العمل،
ولقد قامت مدارس غتسهيرن روكو فون ريكان بإدخال هذه الفكرة؛ إذ يجب على الطلبة
اكتساب المهارات الملائمة على الصعيد الريفي للحياة.
روسو
قدم جان جاك روسو في كتابه
إميل (Emile ) المنشور في عام (1792)
رؤية تعليمية، يكون فيها التعليم الحديث من دونها ضربًا من المُحال، وتقوم الابتكار
العظيم في فكر روسو على عدم رؤيته للتعليم على أنه مجرد وسيلة لتحقيق أهداف أسمى،
بل يرى أنه لابد في وضع أهداف التعليم برمتها تحت المساءلة؛ فحسب اعتقاده، على التعليم أن لا يبقى مجرد أداة
لتوجيهات معيارية، إنما يجب عليه أن يحترم، ويطور شخصية الطفل الذاتية، وهذا الأمر
حسب ما يعتقد، يجب أن يكون الأساس والتشريع للتعليم، وبالتالي فإن نضوج الفرد المتعلم، واستقلاليته وحسه الإدراكي
لا تبدو ظاهرة؛ إذ أن الفرد البالغ يتجاوب مع الأحكام وأفكار المعلم.
ولكنه بهذا يكون قد استحصل
لنفسه على مكانة خاصة به، ويقوم نقد روسو اللاذع للتعليم-غير المستنبط من حقّ
الطفل في التعليم- على الاعتراف بأن كل حياة اجتماعية تتضمن بعض الإمكانيات
البشرية، التي ستقوم باستبعاد غيرها، ولا
يمكن أن يتشكل هذا الموقف بطريقة راديكالية أكثر مما ذكر على الصفحات الأولى من
كتاب إميل: "إن الرب يخلق الأشياء طيبة، فيتدخل بها الفرد وتصبح شريرة، حيث
خلق الفرد ضعيف، لذلك يحتاج القوة، خلق بلا حول ولا قوة، العون، خلق أحمق لذلك
يحتاج العقل، فكل ما كان ينقص الفرد عند الولادة، وكل ما يحتاجه عندما يصل إلى
البلوغ هو هبة التعليم..."، ويدرك روسو تبعية البشر الانثروبولوجية للتعليم؛ أي
حلم التعليم كحاجة ضرورية للحياة، ولكنه أيضًا يشدد على عدم ملائمة الواقع
التعليمي بالمقارنة مع الحلم التعليمي، فهو من ناحية يقترح إمكانية التطوير من حيث
المبدأ؛ إذ أنه في هذا الشأن متفائل بخصوص التعليم، إلا أنه ومن الناحية الأخرى يدرك الآثار السلبية للسلطة التي لا يمكن
تجنبها في المواقف الاجتماعية، والتي تستمر في إعاقة تطور الفرد.
وبالنسبة لروسو, يجب أن
يحفز التعليم تلك القوى الموجودة لدى البشر، والتي تمكنّهم من إشباع احتياجاتهم
الفطرية. ومع ذلك، فإن تلك الاحتياجات - صنع " ما هو فني"- التي لا يمكن
تحقيقها بشكل مستقل يجب تجنبها كونها تتداخل مع قناعة الطفل أو الفرد، ويصبح الحب
المقدّم للطفل هو مبدأ التعليم، ومن خلال الحب، يمكن تطوير توجّه لطفل لا يضحي بالقناعة الحالية،
وأرجاؤها للمستقبل من خلال تصنيف الزمن الحاضر للطفل إلى أهداف يجب تحقيقها في
المستقبل؛ فالألعاب مثلًا التي تمرن وظائف الطفل العقلية، والبدنية، وتشكل العنصر
الأساسي للانجازات الحياتية الحالية للطفل، والتي تقدم في الوقت ذاته خبرة مهمة
لمستقبله, تلعب دورًا مهمًا في صلب التعليم، وإن شغف الأطفال بالألعاب يمكن
استعراضه ضمن أهداف العملية التعلمية.
يتعلم الطفل بشكل غير
مباشر من خلال بيئته، مع أن هذا مُعدّ بشكل تعليمي، إلا أنه يعمل وفق هذه الطريقة:
" لا تحكم على عمله، وتضعه تحت أية معايير إلا تحت معيار فرد محترف، فليكن
الحكم عليه كعمل، وليس لكونه قد قام به.
وإذا كان ثمة شيء مصنوع
بطريقة جيدة. أقول: " هذا حقًا عمل جيد"، ولكن لا نسأل عمن قام به. إذا
سر بنفسه وشعر بالفخر و قال: "انا قمت به"، فلتجب
بلا اكتراث " لا يهم من قام به، فهو عمل جيد".
وتشمل مثالية روسو اكتشاف أهمية
الشباب كمرحلة انتقالية بين الطفولة والبلوغ، ويقع التأكيد هنا أيضا على ظروف
حياتية معينة تجلبها مرحلة البلوغ، واكتشاف الحقّ الخاص بالشباب، والتأكيد على أهمية
روح المراهقة في التطور الانساني، وفي جميع الأحوال، فان هذه المرحلة من الحياة هي
أساس التوازن بين ما يريد الفرد وبين ما يمكنه فعله، مما يجعله أمرًا محوريًا لكي يشعر
الفرد بالقناعة.
إن حلم روسو بالأهداف
الذاتية للتعليم، وأن على التعليم تحضير ذات كل طفل، تذكر باستنتاج هولدرلن القائل:"
يغدو الانسان ملكًا عندما يحلم، ومتسولًا عندما يتأمل"، وعلى الرغم من تنامي الوعي للتركيبة المصطنعة
لطبيعة التعليم، وللشخصية البشرية التي أدّت إلى زيادة الشك بوجود
"الذات"، إلا أن فرضيات روسو ما تزال تشكل العناصر الرئيسة للتأمل
التربوي، وعلى الرغم من أن الاحلام قد
تشير إلى الصحوة إلا أن حلم روسو يفترض مسبقًا بأن الصحوة لم تحصل إلى الآن،
ويقول بنجامين:" أن الصحوة عملية تدريجية تمتد عبر حياة الفرد، وفي حياة
الجيل أيضًا؛ فالنوم هو نقطة الانطلاق الرئيسة، حيث تلتقي خبرات الجيل بخبرات الحلم
في نقاط كثيرة مشتركة، وجسمها التاريخي هو
جسم الحلم، وكل حقبة من الزمن لديها هذا الجانب ذو النزعة الحلمية، وهذا الجانب
الطفولي". ويُعدّكتاب اميل لروسو حلم يعاني من صراع مع حقبة زمنية يطالب فيها
العقل بالاستحواذ على السلطة، ولكن باسم العقل يتم فيها استبعاد الآخرين.
يتم في هذه العملية
التقليل من استقلالية الطبيعة، والأحلام والمقدسات وجميع ما يمكن الوصول إليه عبر
اللغة؛ مثل: تكلفة توحيد المعايير، والشمولية،
وتجريدية الحياة المعاصرة في المجتمع المنضبط (فوكولت) بأفراده الذين
يشبهون من يتحكمون بأنفسهم, وتتغلغل فيهم عملية التمكين الذاتي، والذين جروحهم
البليغة لا تزال توجعهم بذكريات حالمة لأساليب أخرى للحياة.
ولقد تم تبني الكثير من
أفكار روسو في معهد بيسدو المدرسي النموذجي- الخيري- والذي أُسس في ديساو عام (1774)،
كما تبينها الحركة الفيلانثروبية بشكل عام، وأحد الأمثلة على ذلك: الفكرة التي
تقوم على مبدأ حقّ الطفل بتطوير سلسلة الإمكانيات الخاصة به، ويصاحب هذا الأمر
باستثناء الكلمات اللاتينية, الصرامة في استخدام الألفاظ, ومحاولة إدراج اللغات
الحديثة, وإدراج الرياضيات، والعلوم الطبيعية في المناهج، وإعطاء الطلبة عقلية تعلمية متحررة، حيث تحتل
مرجعية التعليم في عالم العمل، وفي المستوى الخاص بالأطفال مكانة مهمة، والهدف من
ذلك هو خلق توازن في صغار السن كشرط مسبق لحياة مفيدة.
همبولت
شكّلت الفترة الكلاسيكية
الألمانية خلفية للرؤية العظيمة القادمة الخاصة بالتعليم، فقد كانت القوة الدافعة للحركة
الإنسانية الجديدة باهتماماتها الجمالية، والفيلولوجية. ويُعدّ كتاب ونكلزمان
(أفكار في تقليد الأعمال الإغريقية في الرسم والنحت) المنشور عام (1755), بداية
التوجّه نحو الصورة الإغريقية المثالية التي هاجمها نيتشة بعنف بعد مائة عام، بينما
العنصر الفيلولوجي، وساد من خلال الدراسة الجديدة للآداب الكلاسيكية التي تضمنت
تقييمًا جديدًا للغة الإغريقية كظاهرة تاريخية، وعلى الرغم من أن الحركة الإنسانية
الجديدة لم تطور التعليم بالمفهوم الضيق، إلا أنها توسعت وأسهبت في نظريتها
التعليمية، وكان همبولت ينظر إلى القيمة التعليمية في الدراسات الكلاسيكية من خلال
المقدار الذي يمكن أن تساعد فيه الفرد على إيجاد نفسه، وإن فكرة الفائدة العملية,
التي كانت لا تزال تعد المهمة الرئيسة للتعليم من قبل كومنيوس، والذين يتمتعون
بالتقوى والاحسان, ولم تُعد مقبولة، وأصبحت مرفوضة كمعيار للتعليم، أما الآن فقد
أصبحت الرؤية "تعليم يتجاوز الفائدة"؛ بمعنى أن العقل يتم صقله من خلال
دراسة اللغات والآثار، ويفترض لهذا النوع من التعليم أن يؤدي تطوير شامل لحياة الفرد؛
فمن حيث المبدأ، لا يمكن تحقيقه، وبالتالي هو مهمة ستبقى طوال العمر. وفي العملية التعليمية, فإن القوة
الداخلية للفرد تقوم باستيعاب الأشياء التي يتعامل معها ويجعلها جزء من كينونته. وبالتالي،
فإن التعليم يلعب دورًا في المواجهة بين الفرد والعالم، والهدف منه الوصول الى
تعليم يطور الأفراد بشكل كامل، ومتساوٍ، في حين أن قابلية التعّلم تمثل القدرة
الشكلية؛ فالآداب الكلاسيكية تمثّل الجانب المادي من العملية التعليمية التي ترتكز
عليها هذه القدرة، وبالطريقة منها التي يمثل بها روسو الطبيعة، فإن همبولت يمثّل
الآداب الكلاسيكية بأنها أصل الحضارة الغربية، وبكونها النقطة المرجعية للتعليم،و
تمثل الدراسات الإغريقية تفسيرًا أساسيًا لتشكّل الإنسان، وبالتالي، تعد و بشكل
خاص ملائمة للتعليم العام.
وقد تم نقد رؤية التعليم
بشكل كبير في الستينيات و السبعينيات من القرن العشرين، وخاصةً أن هذه الرؤية كان
تُفهم على أنها انسحاب من الموضوع إلى الجوهر، وبشكل خاص في ألمانيا، وذلك نتيجة
للتأثيرات المرتبطة بالإصلاحات التربوية البروسية، حيث اعتبر هذا الأمر مسؤولًا عن
انسحاب الطبقة البرجوازية المثقفة من الحياة السياسية، وعن العواقب السياسية
الناجمة، وكان الانتقاد بكل تأكيد مبررًا، ولو بشكل جزئي، الا أنه يقلل من شأن
المحتوى لنقد هذا الموقف، حيث أنه بينما يشدد على أهمية الموضوع في التعليم، يرغب
في مقاومة متطلبات المجتمع المتعلقة بفائدة الفرد ونفعيته، إضافةً للديمقراطيات المدنية، فأن الهدف من
التعليم الشامل العام يحتوي على نقطة مهمة،
ومغايرة للواقع في التوجّه؛ فهذه النقطة وبشكل عرضي كانت تشكل ضرورة في الهدف
التعليمي لكل مواطن اشتراكي متعلم في الجمهورية الألمانية الديمقراطية السابقة.
إن تحليل حلم كومنيوس
التعليمي لتحقيق التعليم الكامل للفرد, و حلم روسو للاعترف بحقّ الطفل في التطور
في بيئة يسودها الحب, وحلم همبولت لتحرير الافراد من الاعتبارات الضيقة للفائدة، وتعليمهم
من خلال الحضارة الإغريقية، فهذه الأحلام قد فسحت المجال للسؤال فيما إذا كان
تحقيقها سيؤدي بالنتيجة لانتهاء الكوابيس، حيث سيقود التحقيق الفعلي لحلم كومنيوس
إلى عالم بيداغوجي بالكامل، حيث سيفسر شمول المعرفة إلى موازة توحدية وشاملة ، وأن
إطار عملها المجهول سيتم استيعابه، واحتوائه في المعرفة الشاملة. بالطبع، فإن مجتمع التعلم، أيحاول فيه أفراده، وبشكل دائم الوصول بأنفسهم للكمال
عبر طرق اكتساب المعرفة الجديدة المستمرة، وبهذه الطريقة يصلون لخلاصهم العلماني؟ إن
التعليم والنزعة الوظيفية المتأصلة فيه، سيدخلان في جميع مناحي الحياة.
يبدو أن هنالك الكثير من نواحي هذا الحلم قد تم
تحقيقها من خلال تشريع التعليم الإجباري في المدارس في معظم البلدان، وبخاصة تلك
الأفكار المتعلقة بالتعليم طويل الأمد في
المجتمعات التعليمية الدولية التي تروج لها منظمة اليونسكو، كما ساهمت الصناعات
الثقافية والعلمية في هذا الأمر أيضاً. الإ
أن الحلم بتمكين الفرد من خلال التعلم، والحصول على المعرفة دائماً كانت تواجهه
العقبات.
على الرغم من الاعتقاد
الشائع بأن تحقيق هذا الحلم هو مجرد سوْال عن الطريقة المناسبة، ولكن على أرض
الواقع تحقيق هذا الحلم سيكون على الأغلب مصيره الفشل. وهنالك شيء صحيح، ومشابه
لمطلب روسو في حقّ الطفل بالتطوير والتعليم الذي يقرره لنفسه، والذي يحتل الآن
مكانة ثابتة في القيم والقوانين الهادفة في التعليم، ومع ذلك فان الأجيال الأكبر سنًا
تنتهك هذا الأمر بشكل غير مقصود،وعلى الأغلب تعتبر أن التنفيذ التام لما تطلبه
الأجيال الشابة سيجلب الفوضى. ويمكن إيجاد الدليل على
انحرافات مشابهة في القويم والضيق في بيئات التعليم المعادي للسلطة، وتلك التي
تعادي التعليم. ويطالب التعليم باختراق جميع المجالات الحياتية
للطالب ؛ فالوهم المتوقع بالقدرة الكاملة يتجلّى في ظروف المختبرات المتعلقة
بالتعليم الأفضل؛ كتلك التي وضعها روسو في كتابه أميل، ويحتاج حلم هومبولت بتعليم
الافراد الى جعل تحقيقه أمرًا نسبياً، وحتى لا تصبح فكرة إجبارية ،فإن هذه النظرة
التعليمية تحتاج إلى دعم من خلال واقع تربوي ملموس يشمل الرؤى العديدة الأخرى.
وإذا ما نجح التعليم
بتحويل تلك الأحلام الى حقيقة واقعة بشكل كامل ، فإن هنالك احتمال بالمخاطرة أن
تصبح تلك الأحلام كوابيس مزعجة؛ فالجمال
المثالي للتعليم خلاب؛ لأنه لم يتمكنّ من تحقيق أحلامه بشكل كامل، والفجوة الدائمة
بين الأحلام وتحقيقها تتمثل بما يحمي كل من الحلم، والواقع الذي تشوهه، وعندما
تنهار هذه الفجوة، وتتقارب الأحلام مع إمكانية تحقيقها، سيؤدي هذا إلى الانفجار،
وربما ستؤدي إلى انهيار التعليم برمته.
الكوابيس
أنتج القرنان الثامن
والتاسع عشر كوابيساً، وأحلامّا فيما يخص التعليم،و تقدّم النصوص التي
جمعتها كاترينا روتشيكي تحت اسم التعليم الأسود دليلاً واضحًا على هذا الأمر؛ فهذه
الكوابيس من الأزل تمثّل الجانب الآخر للتعليم،كما أن عواطف المعلم المكبوتة بسبب
القمع الذي يواجهه نتيجة للرقابة التعليمية التي تسجل ببطء في العقل الواعي تبدو
ظاهرة للعيان، وأصبحت المطالبة بالانضباط والعقلانية والموضوعية بشكل تدريجي تعبّر
عن نفسها بكل حرّية.
في مواجهة تلك الأحلام، أصبح
التعليم عبارة عن أساليب لتنمية قدرات الطفل، وعلاوة على ذلك، بمساعدة المدارس
التي تتحول بالكامل إلى معاهد بشكل مضطرد، وفي هذا السياق، فإن من واجب المعلم أن
يدفع الضحية عبر العملية الحضارية التي تطالب بتطويع مشاعر الطفل؛ فالمعلم قد جرّب
بأن يكون ضحية لهذا التعليم في هذا المجال. وقد جاءت نظريات التحليل النفسي لتفتح المجال
أمام الافتراض القائل بأن المعلم يحتاج للطفل حتى يتمكّن من تخفيف مشكلات الانضباط
لديه في عقله اللاواعي، وهنالك مثالين من أعمال ارتش، جيه، كامبس(H. J Campes ) يوضحان تلك الجوانب
التعليمية، وما يتعلق بها من خيالات و أوهام وأحلام وهي على النحو الآتي:
1. الاهتمام الكامل بعلاقة بدنية جيدة، وخاصة تقوية الأطفال
بدنيا.
2. حماية الشباب من الوحدة والإحباط.
3. عدم تكليف الشباب بالكثير من العمل،
وخاصة مما قد يرهقهم.
4. الاهتمام بحماية الشباب من الإغراءات
قدر المستطاع.
5. عدم جعل الأطفال يذهبون إلى الفراش
باكرًا او يستيقظون متأخرين حتى لا يُتاح المجال أن يبقوا مستيقظين في فراشهم.
6. عدم قبول أغطية الفراش الدافئة
باعتبارها مضرة، وغير مجدية.
7. منع الصبية منذ سن مبكرة من تعلّم عادة
وضع الأيدي في سروايلهم.
8. منع الفتيات من وضع رجل فوق الأخرى أثناء
الجلوس.
9. منع الأطفال من الجنس نفسه، أو من
الجنس الآخر من النوم في الفراش نفسه.
10.
بذل كل جهد لمنع، أو ابعاد
أي شيء يسبب احتكاكًا مع الأعضاء الجنسية.
11.
عدم ترك الأطفال من الجنس نفسه
او الجنس الآخر لوحدهم.
12.
ترسيخ قواعد الاحتشام، والعفة في عقول الشباب.
13.
النأي بالشباب عن جميع
المشاهد التي قد تؤثر سلبًا على خيالهم.
يقوم كامبس في معركته المحمومة ضد
خطيئة الاستمناء بوصف، وبشكل مفصل احتمالية الختان الشامل الذي يمثّل الذروة في
معركة التعليم ضد الشهوات، ولشرح هذا
المفهوم، قام كامبس بذكر طالب ،خاض معركة تستحق الإجلال حسب وجهة نظره ضد ما يُسمى بالاعباء المؤذية لضعف النفس،ولقد أخذ هذا الطالب مسمارًا،
ووضع قلفته على الطاولة جاذباً أياهًا للامام ، ثم ثبت المسار فوقها -
يا له من ولد يتمتع بشجاعة قل نظريها-، وعندها وبضربه قوية بواسطة الكتاب قام بتثبيت
نفسه على الطاولة، وعندها أخرج المسمار وأغمي عَليه.
بعد أن استعاد وعيه، أخرج خيطًا مغموسًا بالكحول، ووضعه في الثقوب التي تنزف بالطريقة نفسها عند ثقب شحمة الأذن، وبوساطة
بلسم معالج أعطاه له جراح، شفي كلا الجرحان تدريجيا، و بقي الثقبان الذي يتخللهما
الخيط، فمن خلالهما تمكّن من إدخال قطعة من سلك نحاسي ، قام بثنيه قليلاً من
المنتصف ،وبقي معلقًا فوق الغدة ، لكي لا تضغط عليها، ثم قام بعدها بثني أطراف
السلك بوساطة كماشة صغيرة لتغطية أكبر مساحة ممكنة من القلفة فوق كل ثقب، ولإبقاء
السلك هناك.
يلاحظ أن الكثير من الخيالات المفصلة
التي تتعلق بعقوبات الأطفال والمراهقين
تنتمي لكوابيس التعليم؛ فهي تبين الخيالات السادية الصرفة في المعلم، وفي
الوقت نفسه يتضمن هذا الأمر ميولًا نحو الابتعاد عن المرجعية البدنية للعقوبة، واستعمال
أشكال من العقوبات التي تخترق الدواخل
العاطفية للأطفال.
شلييرماخر
بعكس مفاهيم كومنيوس وروسو
وهومبولت التعليمية التي واجهات الواقع التربوي بأحلام لتعليم أفضل، والتي تعنيأ أساسا
وجود أفراد أفضل في عالم أفضل،
اختار شليرماخر منهجًا آخر يحتاج بالتالي لشرح مختصر، ويبرز حلم شليرماخر نتيجة للأهمية
التي اكتسبها في مفهوم ديلثي التعليمي، ولأهميته في التعليم الإنساني المبني على
هذا المفهوم، ونتيجةً للمناهج الجديدة في النظرية التربوية. ولا تبدأ نقطة البداية
في التعليم عند شليرماخر لا تبدأ بالنظريات التعليمية، إنما تبدأ بالواقع التعليمي
الموجود؛ فهذا الواقع هو نتاج للعملية التاريخية الاجتماعية التي تحددها عوامل
السلطة الاجتماعية بشكل ملفت للنظر، والكثير من التوقعات النظرية العديدة.
وهنالك
مكانة معتبرة للواقع العملي للتعليم متجاوزًا بذلك أي حلم أو نظرية تعليمية، فلن
تشكّله أية نظرية، أو حلم مستحدث بحسب النماذج الموجهة للنظرية التعليمية، ومع ذلك
فإن النظرية التربوية يجب أن تتجذر، وتستلهم من الواقع التعليمي، ويعبر شلير ماخر
عن هذا الاعتراف بقوله: وضع تأكيد كبير على الآثار الخارجية، وحتى لو ظهرت النظرية
متأخرًا، فالنشاط التعليمي يحمل صفة الفن، وهذا الأمر غير
موجود في جميع التخصصات التي يمكن
اعتبارها من الفن على نطاق محدد؛ فالممارسة دائمًا أقدم من النظرية، وبالتالي هل
بالكاد لأحدهم القول بأنها اكتسبت خاصيتها المميزة من خلال النظرية؟ إن المكانة
الخاصة للممارسة في حقيقة الأمر مستقلة عن النظرية؛ فمن خلال النظرية تصبح
الممارسة بالكاد أكثر وعيًا.
وقد قام كل من كومنيوس وروسو
وهمبولت بتصميم أحلامهم بطرق مغايرة للواقع، بينما شليرماخر قام بالتحدث عن
الاحترام الذاتي للواقع التعليمي، مدعيًا أنها تُعد نظرية مستقلة إلى حدّ كبير،
ومن خلالها تصبح أكثر قابلية للوعي، وقام شليرماخر كما فعل كل من هيدغر وبليسنر
بتطوير المقولة التي تقول بأن الواقع البشري لا يمكن احتوائه من خلال النظرية، وبالكاد يمكن للنظرية أن تخترق الواقع من حيث المبدأ، وجعله
مدعاة للوعي بشكل أكبر.
وفق رأي شليرماخر فإن
الواقع التعليمي يجب أن يُجزأ ويفهم كنص وفق الطريقة التفسيرية، ولا بدّ من
استيعاب التوقعات النظرية أثناء العمل في الواقع، وتعديلها إذا اقتضت الضرورة، وأخذ
اريش فينيغر هذه الفكرة، وفرق فيما سماه بين النظرية من الدرجة الأولى - حيث إن أحدهم
في ممارسة العمل غير معروف للممارس على
الأغلب- و بين النظرية من الدرجة الثانية التي تشتمل على تصرفات الممارس التي لا
تكون دائمًا حاضرة، ولكنها على الأغلب تكون مستترة. وأخيرًا يفرقها عن نظرية
الدرجة الثالثة التي يكون الغرض منها العلاقة بين النظرية، والتطبيق في الممارسة،
الأمر الذي سيؤدي إلى توضيح العلاقات بين النظرية، والتطبيق في السياق
السلوكي في الممارسة التعليمية.
وقام شليرماخر بتطوير سلسلة من السمات التي يمكن استخدامها
لاختراق واقع التعليم الاجتماعي من ناحية نظرية. وتتميز هذه السمات بما
يأتي:
- التعليم المباشر (الإيجابي)
التعليم غير المباشر(السلبي).
-
الاستقبالية و التلقائية.
-
الدعم و المعارضة.
- تطوير الوعي و توسيع
المهارات.
-التعليم الرسمي و المادي
وتوفر هذه السمات معاييراً للتدخل التربوي الذي
يفهمه شليرماخر كتصرف بنية مكسورة.
ولا يجب أن يُنظر إلى السلوك التربوي كسلوك غرض
عقلاني مستقىً من أهداف معينة، أو كسلوك تقني،
ويعترف كل من لومان وشور بهذه المشكلة عندما لاحظا بأن النظام التعليمي مكون بشكل
بنيوي وفق العجز التكنولوجي، إلا أنهما يدعيان أنهما
استنبطا من هذا النقص في القانون السببي في الأنظمة الاجتماعية عدم وجود أية
تكنولوجيا بشكل موضوعي، يحتاج الفرد لمعرفتها وتطبيقها، فحسب اعتقادهم يميل الأفراد
للجوء إلى اختزال عملياتي للإشكال، واختصار الخطط السببية الخاطئة التي يوجّه فيها
الأفراد أنفسهم من خلال الرجوع لذواتهم، وللأفراد الآخرين.
الخلاصة
تختلط في الحلم التعليمي
العناصر المثالية مع العناصر التي تشبه الكوابيس، فالكوابيس تقع ضمن دائرة الخطر
من أن تكون عرضةً للقمع لكي لا تزعج الأمل القائم لتحقيق الأحلام المثالية،
وبالطبع، والمسلم به بأن عمليات مماثلة من القمع، قد مكنّت شرائح كبيرة من المجتمع
في فترة الستينات، والسبعينات من القرن العشرين التي تدفع قُدمًا بحلم التحرر،
والديمقراطية التي تضمنت إصلاح أنظمة التعليم. وبالتالي, فإن من خلال
تطبيق أشكال جديدة من طرق التنظيم، والأهداف والمحتوى والوسائل والمناهج الجديدة أيضًا, على المعلمين
والأطفال في الحضانات, فإن النظام التعليمي سيسهم في تحقيق إيجاد مجتمع أفضل. ولكن عند الأخذ بجملة
بنجامن التي يقول فيها: أن الصحوة القادمة تقف كحصان طروادة في الحلم، فكما أدّت
تلك الخدعة المذكورة في الأوديسة إلى جعل اليونانيين المختبئين في الحصان الخشبي إلى
طروادة، واختتام انتصارهم، فإن التطوير الجديد عمل بالطريقة نفسها، جاعلًا حلم
السلطة التعليمية المسيطرة كلها يُضطرم باللهب، حيث إن الشعور بالاستكانة، وانعدام
التوجيه أيقظ مشاعر مشابهة لتلك التي أحس بها اليونانيون عندما أبحروا بعد دمار
حلم طروادة. لقد بدأ النشطاء في مجال التعليم الذين خسروا المعنى الموجود في الحلم
بالبحث عن اتجاهات جديدة؛ فبعضهم عاد إلى المدارس القديمة في الفكر، والتعريف،
والبعض الآخر ما زال متمسكًا بالحلم الذي لا يمكن استرجاعه.
ونظرًا للحتمية المتأصلة
في الانثروبولوجيا، والحاجة لتصميم ذاتي إنساني, فإن الحلم التعليمي يُعدّ ضروريا
كضرورية التعليم ذاته، ولكن السؤال يبقى مفتوحًا فيما يتعلق بماهية الأحلام التي
يتوجب الحلم بها، وما هي الأشكال التي يجب إنجازها في مجتمع معين وفترة تاريخية
معينة؟ يدور الحلم حول واقع الحياة
والتعليم؛ فالحلم يكمل الحقيقة، ويصححها، ويعمل على إشباع رغباتها التي لم تُلبى،
كما أان الحلم يخترق الواقع، ويراوغه، فهو يصمم تعديلات مغايرة للحقيقة، وللبدائل.
إن الفرق بين الحلم
والواقع التعليمي هو بالأساس أمر حتمي وقطعي؛ أي أنه يستجيب مع الاختلاف بين ما هو
خيالي، وما هو حقيقي، حيث لا يعود بالإمكان استعمال تخطيط واضح، ومحدد. وبالمقابل
يصبح ما هو خيالي أكثر واقعية وما هو واقعي يصبح خياليًا أكثر، لكن هنالك فجوة
حسية بين الخيال، والواقع تتيح المجال لظهور أحلام تعويضية دائمة التجدد، وظهور
كوابيس للتعليم من خلال استعراض حدود الإمكانيات الخاصة بالتعليم، وقدرتها على
تغيير الفرد ومن خلال إظهار الحدّ الذي يمكن للفرد أن يكون متعلمًا.
تعليقات
إرسال تعليق